يدعي التطوريون أن مسألة السلف المشترك هي أفضل تفسير للتنوع البيولوجي والمدعم بأدلة (إمبريقية) من أكثر من خط في الأدلة التشريحية والجينية وغيرها!
فهل الأمر كذلك؟
في الحقيقة هو أبعد ما يكون عن ذلك، ولو كان الأمر كذلك؛ لما كان هناك محل للخلاف في هذه الجزئية أصلًا إن كانت الأدلة تدعم تلك الفرضية بيقين .. لكن لنحاول تفسير ذلك في ضوء المنهج العلمي وهل هذه الجملة بالأعلى تعد دليلًا أم افتراضًا!
طبقًا للمنهج العلمي، فخطوات البناء العلمي التجريبي هي كالتالي: ظاهرة، فرضية لتفسير الظاهرة، إثبات الفرضية بأدلة، إعادة تكرار الإثبات، تحقق التفسير…، فلإثبات أن الفرضية صحيحة؛ لابد أن يتم التدليل عليها بأدلة متكاملة concise and consistent ويمكن تكرارها repeatable أو إعادة إنتاجها reproducible كما في الوراثة مثلًا .. وإذا خالفت الأدلة الفرضية أو ثبت خطأها في أي عينة من عينات البحث، فإن الفرضية تكون خاطئة بالضرورة ولا داعيَ للتشبث بها…، وفي العلم التجريبي، خطأ واحد فقط كافٍ لأن تكون الفرضية كلها خطأ!
يعطي “كارل بوبر” فيلسوف العلوم الأشهر مثالًا لذلك سماه “فرضية الإوز الأبيض” .. مفادها: إذا كنتَ ترى كل الإوز أبيضَ في مدينتك، فخرجت بفرضية مفادها أن (كل الإوز أبيض) فإن العثور على إوزة واحدة سوداء كاف لهدم الفرضية، حتى لو جلست مئات السنين ترصد أن كل الإوز أبيض!
الآن فلننزل تلك المبادئ على موضوع أن الكائنات جميعها أتت من أسلاف مشتركة، وأن لجميعها سلف واحد بدائي مشترك.
مسألة السلف المشترك هي مسألة (وراثية في الأساس)؛ فأنا وأخي سلفنا المشترك هو أبي، ولكننا جميعًا من نفس النوع، ولكن هذا ليس ما تقوله نظرية التطور فحسب!
ما تقوله نظرية التطور هو ما يلي:
الظاهرة: هناك بعض الكائنات المتشابهة تشريحيًا وجينيًا.
الفرضية لتفسير الظاهرة: لأنها أتت من أسلاف مشتركة لها نفس الخصائص تقريبًا عن طريق مراحلَ انتقالية عبر تغيرات بسيطة.
الآن، هذه فرضية كما ذكرنا، بقى على من يفترضها أن يثبتها أولًا، قبل أن ينطلق منها ويعممها، ثم يستخدمها هي نفسها في إثبات التطور!
الآن، هل الأدلة حقًا تؤيد فرضية أن كل الكائنات لها سلف مشترك؟ الإجابة هي: لا بالتأكيد .. لأسباب كثيرة:
1- لم يقم دليل واحد إلى الآن على أن هناك سلفًا لأي كائن آخر أصلًا .. وليست هناك أي مشاهدة ولا تجريب على أي نوع تفرع إلى نوعين مختلفين كلاهما في حوض جيني مختلف، وكلاهما يختلفان عن الأصل، لا في الأدلة الحفرية، ولا في المشاهدات المعملية.
2- الكثير من الحلقات الافتراضية التي يفترض التطوريين أنها (حلقات وسيطة) لا يُعرف كيف تطورت هي من أسلافها عبر حلقات أخرى وسيطة، فالسجل الحفري يخلو تمامًا من هذه الأشكال الوسيطة، ولا يوجد فيه إلا ظاهرة تسمى الـ stasis أي ظهور الأنواع، ثم ثباتها، ثم انقراضها، دون أي حلقات وسيطة ولا مراحل انتقالية. وهو ما عبر عنه ستيفن جولد ونيلز إلدريدج بمفهوم الـ punctuated equilibrium وذكروا صراحة في كتبهم ودراساتهم مفهوم الـ stasis في السجل الحفري. وهو ما أثار عاصفة من الانتقادات ضدهم مع أنهم هم أنفسهم تطوريان!
Niles Eldredge and Stephen Jay Gould, “Punctuated Equilibria: An alternative to phyletic gradualism,” in Models in Paleobiology, ed. Thomas J.M. Schopf (San Francisco: Freeman Cooper, 1972), 82–115.
3- هناك كائنات متشابهة مورفولوجيًا إلى حد بعيد، وهي من عائلات وشعب مختلفة تمامًا، كالمشيميات والجرابيات التي تكاد تكون متماثلة تشريحيًا ولم يثبت أن بينها سلف مشترك تفرعت منه كما تقتضي النظرية.
يقول العالم التطوري (رونالد جينر): “بسبب النقص الشديد في السجل الحفري، فلا مجال لنا إلا اللجوء لإعمال خيالنا حتى نتمكن من بناء تاريخ للكائنات، والذي هو هدفنا الأسمى من دراسة تطور الحيوانات. حقا، إن الخيال هو أداتنا الوحيدة لترميم شظايا الأدلة لتصبح تاريخًا كاملًا”
Ronald A. Jenner, “Macro evolution of animal body plans: Is there science after the tree?” BioScience, 64 (2014): 653–664.
ليس عليك في التطور كما ذكرنا من قبل إلا أن توسع مخيلتك!
4- هناك كائنات متشابهة جينيًا كذلك في وظائف متعددة، ومتشابهة حتى في آليات التنظيم الجيني وليست بينها أسلاف مشتركة بل هي من شعب بعيدة تمامًا عن بعضها، مثل الخفاش والحوت، أو الفأر وقنفذ البحر أو الديدان الشوكية، أو الإنسان وديدان النيماتويد. والأبحاث التي حاولت بناء شجرة تطورية مبنية على التشابهات الجزيئية molecular phylogeny خرجت بنتائج مضادة للشجرة التطورية المبنية على التشابهات المورفولوجية، وخرجت نتائجها هي نفسها متضاربة مع بعضها نتيجة تضارب طرق المقارنة ورص التسلسلات الجينية.
يمكن على سبيل المثال مراجعة دراسة الثلاثي روكاس، وكروجر، وكارول والتي قامت بدراسة 50 جينًا منتشرًا في 17 مجموعة من الكائنات، وخرجت بنتيجة مفادها أن كل التحاليل الجزيئية يمكنها أن تصل لنتائج مختلفة ومتضاربة على الرغم من أن كل طريقة تدعي أنها الأفضل!
Antonis Rokas, Dirk Krüger, and Sean B.Carroll,“Animal evolution and the molecular signature of radiations compressed in time, Science, 310 (2005):1933–1938
5- أصول كل الشعب الحيوية، والمخططات الجسمية الأساسية ليس لها أي تاريخ تطوري ولا تعرف لها أسلاف على الإطلاق بل جميعها تظهر بشكل مفاجئ كما يظهر في السجل الحفري، وبقيت ثابتة إلى يومنا هذا.
6- حتى النماذج الرياضية لمسألة السلف المشترك العام Universal Common Ancestor فشلت جميعها إلى يومنا هذا في إثبات ذلك. يمكنكم مراجعة مقالنا السابق عنها ( إضغط هنا ) :
لذلك كله؛ ففرضية السلف المشترك ليست عليها أي أدلة تحظى بوصف الأدلة العلمية المقبولة؛ أدلة كما ذكرنا آنفًا، متكاملة وواضحة ويمكن تكرارها أو إعادة إنتاجها، بل الأدلة التي بين أيدينا تخالفها بوضوح .. ولذلك كما يقول المنهج العلمي لا نحن، فهذه الفرضية ساقطة ولم يقم دليل عليها لا تجريبيًا ولا نظريًا، ولنسترجع هنا مثال (بوبر) عن الإوز الأبيض، فمخالفة واحدة للفرضية كافية لإبطالها مهما كانت عدد المشاهدات المؤيدة لها، فماذا إذا كانت هناك مخالفات عديدة؟!
ثم يقول التطوري بعد أن يكتشف تهافت ما يدعيه: “طيب هل هناك تفسير علمي بديل؟”
ونحن نقول، وهذا خطأ علمي آخر… فبمجرد سقوط الفرضية تصبح فرضية خاطئة ويجب أن نتجاوزها ونبحث عن غيرها، فكيف يكون هناك بديل أصلًا إذا أصررنا على صحة الفرضية رغم تضافر الأدلة على خطأها، البديل يتوفر حين نقر بخطأ الفرضية ونبحث عن فرضية غيرها، لا بالتشبث العنيد بما نرى تهافته بوضوح!!