بالحديث عن ديكتاتورية الحُكم الديني في أوروبا، يأتي ذكر فترة العصور المظلمة، وهي الفترة التي فرضت فيها الكنيسة سيطرتها التامة على كافة مقاليد الحياة، فقد كانت الكنيسة المرجع الأول والأخير في شتى مناحي الحياة الفكرية منها والعلمية.
ومن هنا يتطرق للذهن سؤال: كيف نشأت البابوية ؟
في بداية ظهور المسيحية قابلها أباطرة الإمبراطورية الرومانية بالتجاهل ظنًا منهم أن المسيحيين شِيَعٌ من اليهود، ولكن مع الوقت اتضح للأباطرة أن هؤلاء المسيحيين:
1) لا يُقِرون بتأليه الإمبراطور وهذا أمر غاية في الخطورة حيث إنه يُعتبر دليلًا قاطعًا على الولاء والبراء للإمبراطورية.
2) يرفضون الخدمة في جيش الإمبراطورية؛ لأنه جيش وثني.
3) تُعقد اجتماعاتهم يوم الأحد بخلاف اليهود الذين تُعقد اجتماعاتهم يوم السبت.
فكان ذلك من ضمن الأسباب التي جعلت الأباطرة الرومان يضطهدون المسيحيين أشد الاضطهاد ويُلحقون بهم أشد أنواع العذاب، ومن أولئك الأباطرة: نيرون ودقلديانوس وغيرهما.
ومع الوقت بدأ حال المسيحيين يتحسن مع ظهور مرسوم التسامح (311م)، ومرسوم ميلان (313م)، إلى أن جاء الإمبراطور ثيودوسيوس الأول وأعلن الديانة المسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية (391م).
ولكن مع ضعف أباطرة الإمبراطورية الرومانية نتيجة لعدة أسباب، ودخول القبائل الجرمانية أراضي الإمبراطورية، وازدياد الخطر الفارسي، ونشوب العديد من الحروب وظهور مشاكل سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية؛ أدى ذلك كله لسقوط الجزء الغربي من الإمبراطورية الرومانية ونُبُوغ نجم البابوية.
وفي ذلك الوقت كان العالَم المسيحي منقسم إلى خمسة أجزاء (دينيًا وسياسيًا)، وهم: روما، بيت المقدس، القسطنطينية، أنطاكيا، الإسكندرية.
فكان في كل مركز كنيسة كبيرة، وكانت هذه الأجزاء مراكز دينية تُشبه المراكز الإدارية، فتشبهت الكنيسة بالوحدات الإدارية وتدرج المناصب فيها وعلى هذا فقد فكروا في الغرب في جمع كنائسه تحت زعامة روما؛ نظرًا لتاريخها السياسي وقيمتها الدينية.
وعلى هذا أصبح هناك هوية شرقية وأخرى غربية لكل منهما سماته ومميزاته ولغته.
البابا في الكنيسة هو صاحب الكلمة العُليا في كل شيء وهو راعي المصالح، وله حق التشريع، وعقد المَجامع الدينية، وتعيين موظفي الكنيسة، والفصل في المشاكل، ومحاربة الهرطقات، وعلى ذكر ذلك فقد تم تحريم أن يُعاشر الزوج زوجته قبل أن يفعل البابا !
كما أن فِكر الكنيسة في ذلك الوقت كان يُكفر كل من تُسول له نفسه أن يقوم بمحاولة لكسر قواعد الفكر أو أن يسير عكس ما تأمر به الكنيسة، كما حدث مع (جاليليو) والذي صَدّق على قول العالم (كوبرنيكوس) صاحب النظرية التي تقول: (إن الشمس هي مركز الكون وأن الكواكب تدور حولها)، في ذلك الوقت خشي (كوبرنيكوس) أن يُدلي بنظرياته تحسبًا للكنيسة، وعندما أعلن ذلك (جاليليو) فقد تم تكفيره واستباحة دمه !
وقبل سنة (1517) لم تكن هناك سوى كنيسة واحدة في الغرب راسخة الأقدام وهي الكنيسة الكاثوليكية وأي خلاف معها يوصف على أنه نوع من الزندقة والإلحاد، حتى تزعّم (مارتن لوثر) (1483 – 1546) حركة سُميت بحركة الإصلاح، فأدان كل ما تفعله الكنيسة بدءًا من بيع صكوك الغفران وحتى احتقار العلم، فاحتج على سلطان البابا نفسـه ورأى أن كل إنسان يجب ألا يخضع إلا لسلطان الكتاب المقدس وحده، ولم تسترح الكنيسة إلى تلك الثورة فأدانته واتهمته بالإلحاد وحرّمت مؤلفـاته.
ولم تنتهِ هذه القرون المظلمة بين عشية وضحاها، وإنما احتاج التخلص منها أكثر من ثلاثة قرون من الكفاح الفكري والعلمي، بل ربما لم يتحقق التخلص التام من هيمنتها إلا في نهاية القرن الثامن عشر، أي أن خمسة قرون أو أكثر امتدت من القرن الثاني عشر إلى الثامن عشر كانت ميدان الصراع لتنصيب العقل المستنير، وتجفيف ما بقي من مستنقعات الظلام.
وهذا يدل على أن الحدّ التاريخي الفاصل الذي تُظهره عمليات التحقيب لا وجود له وإنما هو مسألة نسبية تُطرح للتوضيح؛ لأنه لا يوجد حدث واحد ولا قرار واحد يمكن أن ينقل الوعي من عالم الخرافة إلى عالم العقل.
وعليه ومما سبق نجد أن هناك أسبابًا تدعو إلى نبذ التعاليم الدينية المُتحجرة والتي كانت تقف ضد التنوير العقلي والاكتشافات العلمية نِدًا بند وحفزت على التحول العلماني ونوجزها في النقاط التالية:
أولًا: طغيان رجال الكنيسة وهيمنتهم، وفساد أحوالهم، واستغلال السلطة الدينية لتحقيق أهوائهم، وإرضاء شهواتهم، تحت قناع القداسة التي يضفونها على أنفسهم.
ثانيًا: الصراع بين الكنيسة والعلم: وكان ذلك في عصر نضج فيه بركان العقلية في أوروبا، وحطم علماء الطبيعة والعلوم سلاسل التقليد الديني.
ثالثًا: الثورة الفرنسية: فقد نجحت الثورة، وحَلّت الجمعيات الدينية، وسرَّحت الرهبان والراهبات، وصادرت أموال الكنيسة، وألغت كل امتيازاتها، وحوربت العقائد الدينية هذه المرة علنًا وبشدة.
– www.alriyadh.com
– www.alukah.net
–www.youtube.com
– الخالدون مائة أعظمهم مُحمد (صلى الله عليه وسـلم) لـ مايكل هـارت ، ترجمة / أنيس منصور
– تاريخ أوروبا في العصور الوسطى ، تأليف د/ سعيد عبدالفتاح عاشور (الباب الأول والباب الثاني من ص 7 الى ص 52)
.