يزدهر نبات التنّوم الصبغي Chrozophora tinctoria في جميع أنحاء منطقة البحر الأبيض المتوسط، في الحقول وعلى جوانب الطرق. وهو نبات صغير ذو أوراق فضية، لا يبدو منتشرًا كثيرًا وفي كثير من الحالات يعد عشبًا مزعجًا، ولكنه في العصور الوسطى حظي تقديرًا كبيرًا. هناك مغزى للاسم؛ إذ إن tinctoria تعني الصباغة، وتشمل الأسماء الشائعة للنبات: الكروتون الصبغي dyer’s croton ونبات دوار الشمس dyer’s litmus plant.
استخدم فنانو العصور الوسطى ثمرته الصغيرة ذات الفصوص الثلاثة لإنتاج لون أزرق رقيق يسمى folium أو turnsole؛ لتلوين مخطوطاتهم المضيئة الشهيرة. فقدت هذه الأصباغ شعبيتها بحلول القرن السابع عشر بسبب ظهور ألوان أكثر حيوية تعتمد على المعادن، وفُقِدت أسرار طريقة استخراج الصباغ من ثمار هذه النباتات. لكن العلماء البرتغاليين الذين يدرسون النصوص القديمة أعادوا اكتشاف وصنع وصفة الفوليوم folium، وليس هذا فقط، بل اكتشفوا التركيب الكيميائي للصباغ أيضًا. وهذا المركب الكيميائي المكتشف حديثًا لا يشبه أي صبغة زرقاء طبيعية أخرى، وسُمِّي: chrozophoridin.
ومفتاح هذا الاكتشاف هو أطروحة برتغالية من القرون الوسطى تسمى «الكتاب عن كيفية صنع كل الدهانات الملونة لإضاءة الكتب»، يعود تاريخها إلى القرن الخامس عشر الميلادي، وتصف بالتفصيل الخطوات والمواد اللازمة لصنع الدهانات، وهي في الأساس كتاب عن وصفات الطلاء في العصور الوسطى. لغة الكتاب هي البرتغالية، مكتوبة صوتيًّا باستخدام الأبجدية العبرية، وكانت تستخدم لإنشاء نصوص مقدسة عبرية. وقبل بضع سنوات، بدأ فريق البحث باستخدام هذا الكتاب لمحاولة إعادة إنشاء الأصباغ الموصوفة فيه. وتصبح المخطوطات المضيئة التي بقيت على مر القرون أكثر هشاشة بمرور الوقت، ولكن بفهم كيمياء الأصباغ، يمكن اكتشاف طرق أفضل للحفاظ على هذه الألوان للأجيال القادمة.
في عام 2018، نجح الفريق في إعادة صنع ذلك اللون الأزرق الرقيق (folium) باستخدام الإرشادات المحددة المنصوص عليها في الكتاب، وقالت الكيميائية باولا نابايس Paula Nabais، من جامعة نوفا بلشبونة NOVA University Lisbon: «أنت بحاجة إلى عصر الثمار، مع الحرص على عدم سحق البذور، ومن ثم وضعها على الكتان». يُستخرَج اللون من قشرة الثمار، إذ يلوِّثُ كسرُ البذور الصباغ، ما ينتج حبرًا رديء الجودة. وغمر الفريق الثمار في محلول مائي للميثانول methanol-water solution مع التقليب بعناية لمدة ساعتين، ثم تبخر الميثانول تحت ضغط أقل من الضغط الجوي (تخلخل الضغط)؛ تاركًا وراءه مستخلصًا أزرق خامًا، قام الفريق بتنقيته أكثر، مع تركيز الصبغة الزرقاء.
كان هذا الصباغ المنقى والمركَّز هو الذي حلله الفريق باستخدام مجموعة من الأساليب عالية التقنية، تتضمن عدة أنواع من قياس الطيف الكتلي mass spectrometry، والرنين المغناطيسي magnetic resonance. كان التركيب الجزيئي الذي وجده الفريق مختلفًا عن الأصباغ الزرقاء الأخرى المستخرجة من النباتات، مثل صبغة النّيْلَة وصبغ الأنثوسيانين anthocyanins، وهو الصباغ الأزرق الموجود في التوت.
ولكن لهذا التركيب الجزيئي بنية مشتركة مع كروموفور chromophor أزرق موجود في نبات آخر وهو العشبة الطبية المسماة بالحُلْبُوب المُعَمِّر Mercurialis perennis مع اختلاف أساسي، إذ يتميز الكروموفور في التنّوم الصبغي ببنية مستقرة مرتبطة بالغليكوزيل، وهذا يعني أنه قابل للذوبان في الماء، ومن ثم يمكن تحويله إلى صبغة، والكروموفور (حامل اللون) هو جزء أو بتعبير آخر مجموعة وظيفية مسؤولة عن اللون في الجزيئات، أما الارتباط بالغليكوزيل (Glycosylation) فهو تفاعل ترتبط فيه كربوهيدرات (مانح غليكوزيل) بهيدروكسيل أو مجموعة وظيفية أخرى لجزيء آخر (مستقبِل غليكوزيل).
ولا يعني هذا الاكتشاف فقط أنه يمكن للعلماء أن يعيدوا صنع الصبغة للتحقيق في خصائصها، مثل: بنيتها، وكيفية تفاعلها مع الضغوط البيئية مع مرور الوقت، بل يمكنهم أيضًا تحديدها بشكل أفضل في المخطوطات التي تعود إلى القرون الوسطى. وهكذا، نعتقد أن هذه الكلمة لن تكون الأخيرة عن هذا النبات المدهش وقصته وأن المزيد من الاكتشافات ستتابع قريبًا.
المصدر :
https://www.sciencealert.com/we-finally-know-how-medieval-artists-created-this-gorgeous-delicate-blue-pigment