2470 : سلسلة رحلة عبر الأسواق: (تمهيد)
{الأسواق: أهميتها، ومكانتها قديمًا}
لم تكُن الأسواق بدعًا في تاريخ العرب:
فالسوق مكانُ يجتمعُ فيه أهل البلاد والقرى، وهو المحل الذي يُتَسَوَّق منه. وكلمة ”سُوق“ [مفرد]: وجمعها أسواق: مَوْضع تُجلب إليه الأمتعة والسِّلع للبيع والابتياع وهي مؤنّثة ويجوز تذكّيرها “، وأصل اشتقاقها من سَوَقَ الناسُ بضائعهم إليها والغالب عليها التأنيث، وهي لغة أهل الحجاز، ولذلك تُصَغَّر على ”سُوَيقة“ لأنه اسمٌ ثلاثي مؤنث ، ويُقال: تَسَوَّق القوم: إذا باعوا واشتروا [1].
• السوق هو عبارة عن حوانيت، أو دكاكين، أو موائد مبسوطة على الأرض، تُعرَض عليها البضائع، ولا تزال مثل هذه الأسواق تُقام إلى يومنا هذا في القُرى، أو في البلاد البعيدة عن التَمَدُّن الحديث. ومن هذه الأسواق ما يَنعقد كل أسبوع، ومنها ما لا ينعقد إلا مرةً في الشهر، أو مرةً في السنة، ومنها ما ينعقد مرة في بضعِ سنين؛ فإن للهنود سوقًا يقيمونها في (هردوار) على ضفاف الكنج كل سنة و يبلغ عدد المجتمعين هناك في الموسم 300.000 نسمة، ويُقيمون في ذلك المكان حجًا مرةً كل 12 سنة يبلغ عدد الحاجِّين إليه مليون نسمة، وهو أكبر أسواق العالم. ومن أمثال هذه الأسواق كثيرة في روسيا، وبلاد الدول العليا، وفي ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وأمريكا. وقد كانت كثير من أمثال هذه الأسواق في العالم القديم ، لكن الأقدام لا تتزاحم فيها إلا إذا كان الغرض من الاجتماع حجًا دينيًّا. فإذا اجتمع الناس في مكان الحج وتكاثروا، واحتاجوا إلى من يبيعهم الطعام والشراب وغيرها تقُام الأسواق لهذه الغاية، كذلك كان شأن العرب. [2]
■ مكانة الأسواق وأهميتها عند العرب قديمًا:
لم تكن الأسواق العربية القديمة مجرد أماكن يتمّ فيها التبادل التجاري من بيع وشراء، بل اكتسبت أهمية أكبر من ذلك؛ لكونها مَحفلاً لتجمّع الأدباء والشعراء من أقطار العالم العربي كافة، فالشعر خلّد لنا كثيرًا من أحداث هذه الأسواق؛ حتى أضْحت مَعلَماً مُهِماً لم يكن للعرب أحفل منه أدبًا، وحرباً، ومتاجرةً، وسياسةً، ومفاخرةً، وفداءً للأسرى…
فـمَكَّة المُكَرَّمة، في الجاهلية، كانت مدينة تجارية عظيمة، وكانت الكعبة أكبر معابد العرب حينئذ، وكانوا يَحُجُّون إلى أصنامِهم وأوثانهم فيها، وتُقيم لهم قريش الأعياد، والأسواق؛ أشهرها “سوق عكاظ”؛ وكانت أكبر أسواقهم. وكانوا يقيمونها في (نَجْد) بالقرب من عرفات من منتصف ذي القعدة حتى نهايته، ولم تكن سوق تجارة فحسب، بل كانت سوقًا للخطابة والشعر أيضًا.
• لقد كانت الأسواق ومنها سوق عكاظ أشبه بمؤتمر كبير للعرب، إذْ كانت تدعوهم طبيعة الاجتماع إلى المفاوضة بالقول، والمفاوضة بالرأي، والمباهاة بالشعر والفصاحة، والمفاخرة بالمحامد وشرف الأصل. فكان من ذلك للعرب معونة على توحيد اللسان، والعادة، والدين، والخلق. فقد كان الشاعر أو الخطيب إنما يتوخى الألفاظ العامة والأساليب الشائعة قصدًا إلى إفهام السَّامعين
ومن أسواق قريش أيضًا: “ذو المجاز” بالقرب من سوق عكاظ. وكانت تظل هذه السوق مُنعقدةً حتى نهاية الحج.
بجانب هاتين السوقين الكبيرين، كان للعرب أسواق أخرى كثيرة، يميرون فيها كما يريدون، ويشترون ويبيعون. من أهمها: “سوق دومة الجندل” في شمال نجد و “سوق خيبر” و”سوق الحيرة” و”سوق الحجر” باليمامة و”سوق صحار ود با” بعمان و”سوق المشقر” بهجر و”سوق الشحر” و”سوق حضر موت” وسوق “صنعاء” و”عدن” و”نجران” وكان لكل سوق من هذه الأسواق وقت معلوم تعقد فيه.
[3].
• إن هذه الأسواق كما يقصدها طالب الربح والشراء، يقصدها أيضًا طالب الأمن والفداء. إذ كان يأوي إليها الخائف طلبًا للإجارة، وكان فيها مُنادِين يُناشِدون ذَوِي الحاجات لتُقْضَى حوائجهم؛ ولأن أغلب هذه الأسواق حولية (تقوم أياما معلومات من كل عام) كانت ميدانًا لغير البيع والشراء؛ فكان فيها تناشد الأشعار، وكان فيها تفاخر،وتكاثر، وتنافر،ومقارعة، فيفوز في هذا أقوام، ويخسر آخرون. وكان لهم حُكّامًا يحتكموا إليهم الناس في مفاخراتهم وأشعارهم.
وهذه الأسواق تتفاوت من حيث الشهرة والذيوع، ومن حيث عدد الناس الذين يَفِدون إليها، ومنزلتهم الاجتماعية والسياسية والقَبَلية، وقد دَرَجَ العرب على أن تكون الأشهُر التي تُقام فيها تلك الأسواق هي من الأشهر الحُرُم. كذلك أماكنها كانت من الأماكن الحُرُم أيضًا، فلا يجوز فيها العدوان ولا الغزو، ولا القتال، ولا الأخذ بالثأر. والأشهر الحُرُم عندهم أربعة هي: ذو القعدة، وذو الحِجَّـة ، ومُحَرَّم، ورَجَـب الفرد ؛لانفراده عن الأشهر الثلاثة المتتابعة. [4] .
■ أثر الأسواق في توحيد عادات ولغة وثقافة العرب:
• لقد كان لهذه الأسواق الأثر البالغ والكبير في توحيد عادات العرب ولغتهم، وفي تطور حياتهم الثقافية والأدبية، فعملت على تقريب لهجات القبائل، وكان قيام قريش على هذه الأسواق هو الذي هَيَّأَ اللغة القُرشية لتصبح اللهجة الرسمية، وأفصح اللَّهجات، وتَـتبَوأ المكان الأعلى. كما وكان لهذه الأسواق الأثر البارز في الدين؛ لأنَّ المناسك كلها تقوم بإمامة قريش (أهل الحرم)، فنتج عن ذلك توحيد في اللغة وتوحيد في الدين والعادات، هذا إلى جانب الانتعاش الاقتصادي وتنويع السلع من مختلف أنحاء الجزيرة ومن فارس والهند والحبشة. وكان المُشَجِّع على قصد هذه الأسواق أنها تعقد في الأشهر الحُرُم، فكان الأمن فيها مَكفولاً، فأمِنَ مُرتادوها، وكَثُر قاصِدوها.
لكن مع تَغيُّر المجتمع العربي، وتَبَدُّل مفاهيم الحياة الاجتماعية والسياسية عند العرب، أخذت هذه الأسواق بالتلاشي والاندثار.
لم تكن الأسواق بدعًا في تاريخ العرب، بل كانت معروفة عند اليونان والرومان، مع بعض الفروق بينها وبين الأسواق العربية القديمة. ولَعَلَّنا في هذه السلسلة: ”رحلة عبر الأسواق“ نُـعَرِّجُ على أشهرِها بإذن الله تعالى..