تعاني اليابان من ندرة مواردها الطبيعية وانخفاض المساحة الجغرافية الصالحة للزراعة، وانتشار الظواهر الطبيعية المدمرة مثل الزلازل والبراكين.
وللتغلب على هذه الظروف الطبيعية القاسية، حاولت اليابان تطبيق استراتيجيات عديدة مثل الانعزال عن العالم، ثم انتقلت إلى محاولة تعويض النقص في الموارد الطبيعية عن طريق استعمار الدول المحيطة مثل فرمز ومنشوريا وكوريا والصين، ولكن هذه الاستراتيجية لم توجد لها حلًا بل على العكس، جلبت إليها الدمار في الحرب العالمية الثانية بسبب اصطدامها بمصالح الدول الاستعمارية الأخرى.
وبذلك لم يعد أمام اليابان سوى التركيز على الاستغلال الأمثل لموردها الوحيد وهو الثروة البشرية التي تزيد عن 125 مليون نسمة، وبدأت بالفعل بعد الحرب العالمية الثانية في توجيه فلسفتها نحو كيفية استخدام ثروتها البشرية بالطريقة التي تساعدها على تحقيق ثورات تمكنها من توفير حياة كريمة للسكان وتوفير احتياجات التصنيع من الموارد المادية والمالية.
ولم ترتكز استراتيجية الإدارة اليابانية على خلق وتطبيق أساليب إدارية سرية، بل ركزت على اختيار وتطبيق مزيج من السياسات والأساليب الإدارية المعروفة، والذي يتفق مع حضارة وثقافة وبيئة اليابان.
ومن أهم أسرار تقدم اليابان
1-أنّ الإنسان الياباني تمكن من نقل ما لدى الغرب من علوم مختلفة ونجح في تقليدها وتطبيقها بل من ثم أبدع في تطويرها إلى الأحسن.
2-أنّ الياباني يعتبر الراحة والنوم شيء معيب، لذلك تجده في غاية الجد والنشاط وقت عمله، وتجد أنّ إجازته السنوية شبه معدومة، بالإضافة إلى عدم وجود سن للتقاعد بالنسبة له.
3-أنّ الياباني يجيد الادّخار، فهو شعب يدّخر من 20% إلى 40 % من دخله.
4-أنّ اليابان يتقن ما يصنع ويقوم به، فيده ماهرة إلى أبعد الحدود.
5-أنّ الياباني لديه شعور بالرقابة الذاتية فلا يحتال أو يتخاذل لأجل توفير بعض المادة أو الوقت.
6-العمل الجماعي وعدم الظهور أو التسلق على الآخرين.
فلسفة التحدي اليابانية:
فلسفة الإصرار والصبر والمثابرة…شعب ذو فلسفة حضارية عميقة الجذور، ساعدت المجتمع الياباني على تشكيل وصنع الإنسان الياباني ليتحكم في ذاته من أجل بلاده، وهي فلسفة إنسانية قائمة على:
1-التوارث من ميراث حضاري عميق ممتد آلاف السنين، يصنع منه سياج أخلاقي من القيم والمبادئ والمثل العليا التي تدفع إلى الولاء والانتماء والإخلاص الكامل والوفاء العظيم والطاعة المطلقة والمشاركة المخلصة والتفاني في أداء الواجب.
2-تحويل الدين والعقائد لديها إلى سلوك مقدس قائم على ضمير قوي مرتبط بوجود الإنسان ذاته وبروحه التي لن تعرف الراحة والهدوء أو السلام إلا إذا تطهرت من الشرور الخمس (الجشع، والطمع، والتسلط، والحسد والشهوانية) أي تطهير النفس من هذه الخبائث، وجعلت هذا السلوك المستقيم طريقًا لخدمة الوطن والأمة.
3-التمسك المرن بالتقاليد والعادات القائمة على التواصل والارتباط القاعدي المتماسك بالأصول العضوية كالأسرة والعشيرة والجيران والحي، ومجتمع العمل والرفاق والزملاء وبعلاقات يملؤها الحب والفخر والتوارث التاريخي.
4-تطلع دائم نحو المجهول المستقبلي باعتباره صديق، فالغد والمستقبل والزمن والوقت أهم أدوات صناعة الذات، وصناعة الذات هي فن استثمار الإطارات البشرية… استثمار الإنسان والارتقاء به… وتفعيله… وتطويره.
5-الجمع والمزج بين زعامة القائد الرمز، وبين الفصائل المطيعة ما بين المدير والعاملين معه كشركاء، وليس كأجراء أو عبيد، ما بين جيل متقدم في السن لديه الحكمة والخبرة وما بين أجيال لديها الأمل والتطلع والقدرة والدافع على صنع غد أفضل.
6-المحافظة على التوازن الاجتماعي وترقية الحراك الاجتماعي، يجعل العمل هو المصدر الرئيسي لتحقيق الثروة والمكانة في المجتمع، وأنّ العمل المشروع هو السبيل الوحيد للعمل وأنّ ما عداه لا يُشكّل عملًا بل هو أمر خارج عن كل شيء يستوجب التطهير والتغيير.
7-أهمية الوقت: فالوقت هو أغلى الأصول على الإطلاق، وهو أصل لا يمكن الاستغناء عنه، يحتاج إلى إدارة علمية واعية رشيدة مدركة لأهمية التقدم. حيث أنّ مُصلحي اليابان أقاموا منذ مائة عام مضت عن وعي بالثقافة الجديدة المصبغة بالسلوك الغربي الجديد على قيم يابانية تقليدية وثقافة يابانية تقليدية، فالشركة والجامعة اليابانية الحديثة غربية تمامًا من حيث شكلها، ولكنها استخدمت كحاضنات إن جاز التعبير للثقافة اليابانية التقليدية غير الغربية.
خصائص الإدارة اليابانية:
1-الوظيفة مدى الحياة: إن كانت أهم خاصية تتميز بها المؤسسة اليابانية هي توظيف العاملين مدى الحياة، فإنّها ليست من الإجراءات العامة المعمول بها في بعض المؤسسات باليابان.
2-عدم التخصص في المهنة: تُفضل المؤسسات اليابانية عدم التخصص الدقيق في المهنة، فالموظف والعامل يمارس أكثر من مهنة وينتقل من قسم لآخر، وذلك للاستفادة به في خدمة جميع أقسام المنظمة التي يعمل بها. وهذا التنقل من قسم لآخر يُكسب العامل تجربة ثرية، الأمر الذي يجعله مُعدًا للترقية.
3-التقييم والترقية البطيئة: لا تتم الترقية في معظم المنظمات باليابان إلا كل عشر سنوات، وهذا الإجراء يطبق على جميع العاملين بالمؤسسة.
4-الانضباط الذاتي: يعمل الموظف والعامل من تلقاء نفسه وبدون توجيه أو مراقبة من رئيسه، وهو أقل نسبة غياب عن عمله، وهو يقوم عادة بعمل إضافي تطوعي بدون أجر.
أصبح إحسان العمل جزء من مقومات شخصية الفرد الياباني، نابع من ضميره ومن ثقافته وتربيته. فالعمل لديهم مزيد من العبادة ومزيد من متعة الحياة.
5-طريقة اتخاذ القرارات الجماعية: تعتمد المؤسسات اليابانية على القرار الجماعي المشترك سواء كان يتعلق بإحداث تعديل في عمليات الإنتاج أو بتأسيس مصنع جديد في اتخاذ القرارات، اليابانيون يبذلون قصارى جهدهم في التركيز على الأهداف العامة للمؤسسة، للبحث عن الحلول الأكثر حظا في النجاح، وهذا يكون عن طريق (البحث عن المعلومة) التي تشكل الحجر الأساس في هذه العملية.
6-الاهتمام الشامل بالفرد: تهتم المؤسسات اليابانية بشمولية العناية والاهتمام بالعاملين والموظفين، ففي الاحتفالات بتخرجهم يحضر الحفل أهلهم وذويهم، وتنعكس هذه الصفة الشمولية والاهتمام الكلي على الثقة المتبادلة والألفة والمودة.
7-الإدارة الأبّوية: إحدى وظائف المدراء في اليابان تربية وإعداد مدراء المستقبل، فكل المدراء يجب أن يشرعوا في المستويات الدنيا ثم يتسلقوا السلالم الإدارية حتى يصلوا القمة ليصبحوا مدراء للمؤسسة، لهذا فإن الشهادات الجامعية العالية لا معنى لها في اليابان، فالفرد يتعلّم في الجامعة، ولا عجب كمثال أن يكون رئيس وزراء اليابان (تاناكا) حاصلاً على الشهادة القانونية العامة فقط.
على أي حال في السنين العشرة الأولى من عمل الموظف يقوم بإنجاز الأعمال الإدارية غير الرسمية وهي التي أطلق عليها (God Father) فيصبح مديراً غير رسمي، أي أنه يقوم بأعمال الإدارة تحت إشراف المدير، فيسمع شكاوى الموظفين، وله صلاحية نقل الموظف من مكان لآخر، كما وأنه يقوم بإعطاء الموظف درجة أعلى ليصبح بالمستوى الذي يناسبه. ومن أبرز سمات (الإدارة الأبوية) التعامل الأبوي للمدير مع عماله وموظفيه، فهو يتعامل معهم كما يتعامل الأب مع أبنائه فيشملهم بعطفه، حتى أنّه يساهم في حل مشكلاتهم العائلية كالزواج وما شابه ذلك، ومشاركتهم في اختيار الزوجة المناسبة. ويشير (سابورو أوكيتا) إلى عامل التضحية عند الموظفين، ويذكر مثالاً على ذلك، أنّ الموظفون والمدراء في شركة (مزدا )عام 1970 وشركة برانيف عام 1980 م عند تعرضهما للخسارة، وافقوا على تحمّل قسط من هذه الخسارة فقد تنازل موظفو شركة (مزدا )عن 50% من رواتبهم ومكافآتهم كما وافق موظفو شركة برانيف للطيران على اقتطاع 90% من رواتبهم لسد العجز في الشركة.
8-الدور الموجه للحكومة: إنّ الأجهزة الحكومية كانت ولا تزال تمارس دورًا أساسيًا في دعم الشركات اليابانية… أي تمارس دورًا كبيرًا في توجيه الشركات (بطريقة غير مباشرة) لأهداف قومية كالاكتفاء الذاتي الياباني ودفع التقدم التقني الياباني.
كما أنّ الانضباط والولاء اللذين يميزان الشركات اليابانية يُسهمان في زيادة تأثير الدور الحكومي من أجل خلق الموازنة بين ربح ومسؤولية هذه الشركات.
لا بد أخيرًا من التأكيد على أنّ التجربة اليابانية أثارت اهتمامًا كبيرًا منذ بداية الثمانينات نظرًا لما تحقق في اليابان من إنجازات كبيرة تُعتبر غير اعتيادية بالمقاييس التقليدية.