التَّشَدُّق في #الكلام هو تكلُّف السجع، والتَّعمُّق، والمبالغة في إظهار الفصاحة في النطق.
والمُتشدق هو المُتطاول على الناس بكلامه، ويتكلَّم بملء فيه تفَصُّحًا وتعظيمًا لكلامه، وهذا من التَّنطُّع الذي نهى الشرع عنه.
التَّشَدُّق: تَشَدَّق الرجل في كلامه: إِذا تكلم بشدقيه تفصُّحاً.[ شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم لنشوان بن سعيد الحميري اليمني] .
المتشدق: المتوسع في الكلام من غير احتياط واحتراز [انظر: النهاية (2/ 406 ) (634)].
شدق شدقًا اتسع شدقه فهو أشدق وهي شدقاء، وتشدق حرك شدقيه للمضغ ولوى شدقه بكلام يتفصح، وخطيب أشدق جهير مفوه، ويقال شفة شدقاء واسعة مشق الشدقين، والشدق جانب الفم مما تحت الخد وكانت العرب تمتدح رحابة الشدقين لدلالتها على جهارة الصوت [المعجم الوسيط (1/476)].
♦ ذكر أبو حامد الغزالي؛ الآفة السادسة من آفات #اللسان فأدرج تحتها:
التقعر في الكلام بالتشدق، وتكلف السجع والفصاحة، والتصنع فيه بالتشبيبات والمقدمات، وما جرى به عادة المتفاصحين المدعين للخطابة. ثم قال: وكل ذلك من التصنع المذموم ومن التكلف الممقوت… والتنطع هو التعمق والاستقصاء. إلى أن قال و يدخل فيه كل سجع متكلف، وكذا التفاصح الخارج عن حد العادة، وكذلك التكلف بالسجع في المحاورات …
ثم قال أيضاً رحمه الله في كتابه “الإحياء”:
“ولا يدخل في هذا تحسينُ كلام الخطابة والتذكير، مِن غير إفراطٍ وإغراب؛ فإن المقصود منها تحريكُ القلوب وتشويقها، وقبضُها وبَسطها؛ فلِرَشاقة اللفظ تأثيرٌ فيه، فهو لائق به، أما المحاولات التي تجرى لقضاء الحاجات، فلا يليق بها السجع والتَّـشَـدُّق والاشتغال به من التكلُّف المذموم، ولا باعثَ عليه إلا الرياء، وإظهارُ الفصاحة، والتَّميُّز بالبراعة، وكلُّ ذلك مذموم، يكرهه الشرع ويزجر عنه”. اهــ. [1]
♦قال الخطابي:
صرف الكلام فضله وما يتكلفه الناس من الزيادة فيه من وراء الحاجة، وإنما كرهه لما يدخله من الرياء والتصنع، ولما يخالطه من الكذب والتزيد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون الكلام قاصدًا تلقي الحاجة، غير زائد عليها، يوافق ظاهره باطنه، وسره علنه[2].
♦ قال محمد جمال الدين القاسمي:
التقعر في الكلام هو التشدق، وتكلف السجع، والفصاحة، والتصنع فيه، فإنه من التكلف الممقوت، إذ ينبغي أن يقتصر في كل شيء على مقصوده، ومقصود الكلام التفهيم للغرض، وما وراء ذلك تصنع مذموم، ولا يدخل في هذا تحسين ألفاظ التذكير والخطابة من غير إفراط ولا إغراب، فلرشاقة اللفظ تأثير في ذلك [3].
و لعلنا نسرد في هذا المقام مواقف و طرائف من ترجمة أبي علقمة النميري النحوي:
أتى أبو علقمة إلى أبي زلازل الحذاء، فقال: يا حذاء! احذ لي هذا النعل، فقال: وكيف تريد أن أحذوها؟ قال:
خصّر نطاقها، وغضّف معقبها، وأقبّ مقدمها، وعرّج ونْية الذؤبة بحزم، دون بلوغ الرصاف، وأنحل مخازم خزامها، وأوشك في العمل.
فقام أبو زلازل فتأبط متاعه! فقال أبو علقمة: إلى أين؟
إلى ابن القِرِّيّة – وهو من أئمة الفصاحة والبيان – ليفسر لي ما خفي علي من كلامك!
قال لغلامه يوماً: خذ من غريمنا هذا كفيلًا، ومن الكفيل أمينًا، ومن الأمين زعيمًا، ومن الزعيم عزيمًا!
فقال الغلام للغريم: مولاي كثير الكلام، معك شيء؟! فأرضاه وخلاه.
فلما انصرف؛ قال: يا غلام! ما فعل غريمنا؟
قال: سقع!
قال: ويلك ما سقع؟
قال: بقع!
قال: ويلك ما بقع؟
قال: استقلع!
قال: ويلك ما استقلع؟
قال: انقلع!
قال: ويلك، لم طولت؟
قال: منك تعلمت.
ركب يوماً بغلا فوقف به على أبي عبد الرحمن القرشي، فقال: يا أبا علقمة! إن لبغلك هذا منظرًا، فهل له مع هذا المنظر من خبر؟
فقال: أَوَ ما بلغك خبره؟ قال: لا! قال: خرجت عليه مرة من مصر، فقفز بي قَفْزةً إلى فلسطين، والثانية إلى الأردن، والثالثة إلى دمشق! فقال له أبو عبد الرحمن: تقدّم إلى أهلك بأن يدفنوه معك، فلعله يقفز بك الصراط!
دخل أو علقمة النحوي على طبيب؛ فقال له: أمتع الله بك، إني أكلت من لحوم هذه الجوازل، فطسئت طسأة فأصابني وجع ما بين الوابلة إلى دأية العنق، فلم يزل يربو وينمو حتى خالط الخلب والشراسيف، فهل عندك دواء لي؟
فقال له الطبيب أعين :نعم، خذ خربقًا وشلفقًا وشربقًا فزهزقه وزقزقه واغسله بماء روث واشربه.
قال أبو علقمة: أعد علي؛ فإني لم أفهم عنك!
قال الطبيب أعين : لعن الله أقلنا إفهاما لصاحبه، ويحك وهل فهمت عنك شيئا مما قلت.
استدعى ” أبو علقمة النحوي” يومًا حجّامًا، فقال له: لا تعجل حتى أصف لك، ولاتكن كامرئ خالف ما أُمر به، ومال إلى غيره.
اشدد قصب المحاجم، وأرهف ظبة المشاريط، وأسرع الوضع، وعجّل النزع، وليكن شرطك وخزًا، ومصّك لهزاً، ولا تزدنّ آتيًا، ولا تكرهن آبياً!
فوضع الحجام محاجمه في قفته، وقال: يا قوم! هذا رجل قد ثار به مرار! ولا ينبغي أن يخرج دمه في هذا الوقت! وانصرف [4] .
قال يوماً لغلامه: أصقعت العتاريف؟ فقال له الغلام: زقفيلم!
فقال أبو علقمة: وما زقفيلم؟ فقال الغلام: وما صقعت العتاريف؟ قال: قلت لك: أصاحت الديوك؟
فقال الغلام: وأنا قلت لك: لم يَصِحْ منها شيء.
حادثة طريفة لأحد النحاة واللغويين مع أحد الأمراء:
صاحب الحادثة هو: أبو علقمة النحوي النميري، قال ياقوت: أراه من أهل واسط. وقال القفطي: قديم العهد، يعرف اللغة، كان يتقعر في كلامه، ويعتمد الحواشي من الكلام والغريب .
قال ابن جني: ومر يومًا على عبدين حبشي وصقلبي، فإذا الحبشي قد ضرب بالصقلبي الأرض، فأدخل ركبتيه في بطنه وأصابعه في عينيه وعض أذنيه وضربه بعصا فشجه وأسال دمه، فقال الصقلبي لأبي علقمة: اشهد لي، فمضوا إلى الأمير، فقال له الأمير: بم تشهد؟ فقال: أصلح الله الأمير! بينا أنا أسير على كودني، إذ مررت بهذين العبدين، فرأيت هذا الأسحم قد مال على هذا الأبقع، فحطأه على فدفد، ثم ضغطه برضفتيه في أحشائه، حتى ظننت أنه تدعج جوفه، وجعل يلج بشناتره في حجمتيه يكاد يفقؤهما، وقبض على صنارتيه بميرمه، وكاد يحذهما، ثم علاه بمنسأة كانت معه، فعفجه بها، وهذا أثر الجريان عليه بينًا. فقال الأمير: والله ما فهمت مما قلت شيئا، فقال أبو علقمة: قد فهمناك إن فهمت، وأعلمناك إن علمت، وأديت إليك ما علمت، وما أقدر أن أتكلم بالفارسية. فجهد الأمير في كشف الكلام حتى ضاق صدره، ثم كشف الأمير رأسه، وقال للصقلبي: شجني خمساً وأعفني من شهادة هذا [5].
يُقول صفيُّ الدين الحِلِّي في ذمِّ التقعٌّر والتشدٌّق في الكلام (انظر مقدمة (القاموس المحيط) للفيروزآبادي، تشيب منها مفارق الغلمان!):
إنما الحيزبون والدردبيس .. والطخا والنقاخ والعلطبيسُ
لغةٌ تَنفرُ المسامعُ منها .. حين تُروى وتشمئزُّ النُّفوسُ
وقبيحٌ أن يُذكر النافر الوحْـ .. ـشيُّ منها، ويُترك المأنوسُ
أين قولي: هذا كثيبٌ قديمٌ .. ومقالي: عَقَنقَلٌ قدموسُ
خلِّ للأصمعي جَوب الفيافي .. في نشاف تخِفُّ فيه الرؤوسُ
إنما هذه القلوبُ حديدٌ .. ولذيذُ الألفاظِ مغناطيسُ
وبهذه الأبيات نختم، سيكون مقالنا القادم بإذن الله عن موقف الشرع من التشدق في الكلام، وبعض أخبار المتشدقين. كونوا معنا في الموعد. دمتم في رعاية الله.
[1]: ” إحياء علوم الدين ” (الجزء3/116- 117 الربع المهلكات /كتاب آفة اللسان ( 1009-1010).
صفحة التحميل رابط مباشر : هنا – هنا
[2]: ” [ الآداب للبيهقي ص131 ] .
صفحة التحميل: هنا
[3]: [ موعظة المؤمنين المؤمنين من إحياء علوم الدين – القاسمي ص 287– ]
[4]: [الصفدي في الوافي بالوفيات (20 / 48).]
صفحة التحميل/ رابط مباشر : هنا
[5]:[الصفدي في الوافي بالوفيات (20 / 49).]
[كتاب بغية الوعاة لجلال الدين السيوطي في ترجمة أبي علقمة النحوي برقم 1645. ]
.