التطور الموجه: إشكاليات المغالطات المنطقية و التناقض الذاتي
أكثر ما يثير استغرابي في الإخوة القائلين بالتطور الكبروي الموجه اعتمادًا على أدلة “البيولوجيا الجزيئيّة/Molecular Biology” أو “تطور السلالات الجزيئي/Molecular Phylogeny” (بعد تساقط كل الأدلة الأخرى تساقطًا حاسمًا كما يعترف أغلبهم)، والتي يدندنون حولها كثيرًا هربًا من أدلة السجل الأحفوري-(خلوه من الأشكال الانتقالية الوسيطة وكذلك وجود الانفجار الكامبري)-التي تضرب مفهوم السلف المشترك والتدرج البسيط والبطيء في مقتل هو= المغالطات المنطقية والتناقضات الذاتية بشكل لا يتفق مع عقيدتهم الراسخة في وجود صانع حكيم خبير. التفاصيل كما يلي:
(١) المصادرة على المطلوب والاستدلال الدائري: يفترضون مسبقًا وجود السلف المشترك، ومن ثم يعتبرون وجود السمات المشتركة في الDNA والRNA والبروتينات وحسابات “الساعة البيولوجية/Molecular Clock” دليلا على السلف المشترك! (بمعنى أن البروتينات المتشابهة في الكائنات المختلفة مكتوبة بنفس الشيفرة أو بنفس الكلمات من الDNA بالرغم من إمكانية إنتاج نفس البروتين ولكن بشيفرة مختلفة، مما يدل على وجود السلف المشترك وليس على الإيجاد المنفصل كما يزعمون). ولكن السلف المشترك هو ما نريد إثباته، ووجود تلك السمات المشتركة كما شرحناها-(لو سلمنا لهم بوجودها بهذا التبسيط المخل)-ليست دليلا حصريا على وجود السلف المشترك، بل قد تشير بقوة إلى وجود الصانع المشترك الذي يؤمنون به بلا ضرورة عقلية لوجود السلف المشترك معه إطلاقا (وإن كان لا يوجد مانع عقلي من حيث الأصل لوجود المصمم والسلف المشترك معا)، بل وقد تشير إلى كفاءة التصميم من حيث اقتصاديته وعدم تبديد الطاقة بلا فائدة وذلك باستخدام نفس التسلسل لإنتاج نفس البروتين الوظيفي في كائنات مختلفة جدًا. إذن هم يصادرون على المطلوب إثباته ويثبتونه إبتداءً بلا إثبات، ثم يستخدمونه في إثبات نفسه!.
(٢) الاحتجاج بالعشوائية التي ينكرونها لإثبات التطور: وهذا التناقض يقع فيه بعضهم بل وبعض مشاهيرهم في احتجاجهم بأدلة البيولوجيا الجزيئيّة. وذلك لأن مجرد وجود السمات المشتركة التي ذكرناها آنفًا لن تفضي إلى شيء ذي قيمة كما أوضحنا، ولذلك يحاول الدراونة إثبات وجود سمات مشتركة ناتجة عن أخطاء أو ما يُسمَّى بالأخطاء المشتركة ليضربوا عصفورين بحجر واحد بحيث يثبتون الآلية العشوائية من خلال وجود الأخطاء ونفي مظاهر التصميم من غائية وإحكام وهو هدفهم الأكبر والأهم، وكذلك إثبات السلف المشترك لأن احتمال تكرار نفس الأخطاء أكثر من مرة بشكل مستقل هو احتمال ضئيل وأيضا لأن سقوط التصميم في حد ذاته يجعل السلف المشترك هو الاحتمال الأكثر موضوعية (ملاحظة: حتى بافتراض وجود هذه الأخطاء-وهو ليس صحيح إطلاقا كما سيأتي بيانه- فهذا الأمر لا يحسم المسألة مطلقًا سواء في السلف المشترك لوجود أدلة السجل الأحفوري الأقوى أو في نفي الصانع المتقن لطغيان مظاهر التصميم المعقد المخصص وغير القابل للاختزال بشكل لا يوصف مع إمكانية ظهور وظائف لتلك الأخطاء المزعومة). وإلى الآن ثبت الفشل الذريع في كل القرائن التي حاول الدراونة استخدامها لترجيح الأخطاء المشتركة في البيولوجيا الجزيئيّة والتي تعتمد بشكل أساسي على الاحتجاج بالجهل الذي سرعان ما يتم فضحه ويتم اكتشاف الوظائف الحيوية والخطيرة لتلك الأخطاء المزعومة مثل خرافات الRetroviruses والjunk DNA والاندماج الحاصل في الكرموسوم رقم ٢ في الإنسان والذي لو صح لأنتج تشوهات وانهيارات خلوية وجينات غير فعالة وهو ما يخالف الواقع…إلخ. وهو نفس الخطأ الذي وقع فيه سابقًا أنصار التطور الموجه في نصرتهم لأكذوبة الأعضاء الضامرة التي تساقطت واحدة تلو الأخرى، والتي لو ثبتت لكانت مؤشرًا على نفي الغائية والإحكام!. فهل ينتصر منظرو التطور الموجه للعشوائية التي يستميتون في القضاء على خرافتها من أجل إثبات وجود التطور!.
(٣) التعامل مع أدلة نفي التطور الكبروي وكأنها أدلة عدمية: وذلك عندما يتم مواجهتهم بأدلة السجل الأحفوري التي تهدم فكرة التطور الكبروي بشكل معتبر؛ فيقولون: نحن لا نستدل الآن بالسجل الأحفوري ولكننا نعتمد الآن بشكل أساسي على أدلة البيولوجيا الجزيئيّة القاطعة. وهذا الكلام يمثل مغالطة منطقية فجة؛ فالسجل الأحفوري لا يتضمن مشاهدات في اتجاه واحد في صالح التطور بحيث لو ثبتت يثبت التطور ولو تم نفيها لا تهدم التطور وإنما فقط قد لا تخدمه كما يدلسون، فيجوز لهم حينئذ الاستغناء عنها والتمسك بأدلة أخرى. ولكنها مشاهدات لو تم نفيها تضرب مفهوم التطور في مقتل؛ فعندما نثبت أن السجل الأحفوري خال تماما من الأشكال الوسيطة المفترض تواجدها بأعداد تريليونية مهولة كما يزعم التطور، وعندما نثبت أن السجل الأحفوري يتضمن ظهورًا مفاجئًا لكم هائل من الكائنات المعقدة بل وأحيانا من الأعقد إلى الأبسط!، وعندما تنهار كل حجج الطرف المقابل في نقض تلك الإثباتات ولا يعد أحد يتمسك بها (مثل دعوى رخاوة الأحافير والتوازن المتقطع…إلخ)، فلا يجوز الاحتجاج بالهروب الخفي كما يفعلون، بل عليهم حل تلك المعضلات بشكل موضوعي. وحتى لو اكتفوا بزعمهم أن أدلة البيولوجيا الجزيئيّة هي أدلة داحضة تثبت التطور (من غير الهروب التدليسي)؛ فذلك أيضا لن يحل إطلاقًا معضلة السجل الأحفوري إلا لو كانت أدلة البيولوجيا الجزيئيّة تثبت التطور وفِي نفس الوقت تحل إشكاليات السجل الأحفوري بشكل مستقل (وهي لا تفعل الأخير قطعًا)، وإلا فسيظل الأمر متنازعا بين دليلين مستقلين متناقضين ويُنظر حينئذ في القوة النسبية بينهما للترجيح الاحتمالي فقط ولا يجوز القفز على إحداهما وادعاء حسم المسألة كما يفعلون. فماذا لو علمنا أن أدلة البيولوجيا الجزيئيّة لا تمثل أصلًا أدلة إثبات على التطور، بل هي أدلة محايدة يجوز تفسيرها بنفس الدرجة من القوة تحت مظلة التصميم المشترك أو السلف المشترك!، بل ماذا لو علمنا أنها تتضمن كذلك أدلة ضد مفهوم السلف المشترك ويحاول الدراونة مط نظريتهم لاحتوائها. فالكلام هنا ليس عن نظرية لها أدلتها القوية مع وجود بعض الاعتراضات الضعيفة ضدها كما يدلسون أحيانا، ولكنها فلسفة تواجه اعتراضات قاتلة تهدم أسسها مع عدم وجود أدلة معتبرة خاصة بها!.
(٤) الاحتجاج بالإجماع العلمي ثم مخالفته: بسبب انهيار الأدلة العلمية على التطور الكبروي، يحتجون كحصن أخير لهم بمصداقية وشفافية الإجماع العالمي العلمي (٩٧٪!) الذي يزعمونه حول أن التطور الكبروي حقيقة علمية، واتهام من يشكك في هذا الإجماع بالدوغمائية والتحيزات غير الموضوعية. نحن لن نناقش هنا دقة هذا الزعم ولا حتى صحة أو خطأ الاحتجاج به في حال وجوده فعلا، ولكننا سنناقش تناقضا ذاتيا مدهشا ومزريا يمارسونه هؤلاء شعروا أو لم يشعروا. فهذا الإجماع العلمي الذي يزعمونه هو حول التطور الدارويني العشوائي وليس مجرد التطور، وهم قطعًا يقولون بخرافة الآلية الداروينية العشوائية. فكيف يحتجون بمصداقية الإجماع من حيث هو إجماع وهو يتضمن شطرًا إلحاديًا هم ينكرونه تماما!. وعند مواجهتهم بهذا التناقض الذاتي الظاهر، يبررون موقفهم بأن الجزء العشوائي هو جزء فلسفي لا يدخل في الإجماع وهو كذب أصلع مفضوح، وإلا فليأتوا لنا بتلك النسبة من هذا الإجماع المزمع التي تقول بالتطور فقط كحقيقة علمية وتقر كذلك أن آليته الداروينية فلسفة وليست علمًا!. بل إن هذا المجتمع الأكاديمي الغربي يضيق تضييقا شديدًا على من يقول بالتطور الموجه أو الخلق المباشر على حد سواء، وما يحدث مع أنصار التصميم الذكي هناك ليس ببعيد!. ولذلك فإن اعتبار أنصار التطور الموجه الجزء العشوائي في هذا الإجماع كفلسفة وليس علما، هو اعتبار يخصهم هم فقط، أما الإجماع العلمي المزمع فهو يعتبر الآلية الداروينية العشوائية جزءً علميًّا أصيلًا من النظرية ويستحيل أن يتنازلوا عنه، بل هو أهم جزء لأنه هو الذي يعطي التطور التفسير الكيفي ولا يوجد نظرية لا تقدم كيفية حدوث الظاهرة بشيء من التفصيل. وهنا يظهر تناقضهم الذاتي الحقيقي في كونهم يحتجون بمصداقية الإجماع من حيث هو إجماع ويلزمون به مخالفيهم في جزء التطور، ثم يخالفون هم نفس هذا الإجماع في جزء العشوائية، فيسقطون بأنفسهم حجتهم الأصلية في مصداقية الإجماع من حيث هو إجماع وعدم جواز مخالفته!. وزد على ذلك مخالفتهم لإجماع علمي فقهي حقيقي بين سلف وعلماء الأمة على مدار ١٤٠٠ عام حول أن الإنسان خُلق خلقًا مباشرًا من الطين بغير أسلاف له، وتمسكهم بشدوذات قلة نادرة جدًا من بعض المتأخرين الذين لا يقاربون عتبة المتقدمين، فأين حجية الإجماع التي يتشدقون بها إذن!.
(٥) الالتزام بلوازم باطلة من غير أدنى اضطرار: مجرد التمسك بكل المغالطات التي سبق تفصيلها يُعتبر في حد ذاته تناقضا ذاتيا إضافيا لمن يعتقد في الصانع المتقن الحكيم الخبير. فنحن نفهم تماما تمسك أنصار التطور الكبروي العشوائي بتلك المغالطات المنطقية وتهربهم من مشاهدات السجل الأحفوري…إلخ حتى يحافظوا على مفهوم السلف المشترك والتدرج البسيط البطيء الذي يمثل الشطر الأول من فلسفتهم التي لا تصح إلا به، ثم يبنون عليه شطرهم الثاني الإلحادي في القول بالطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي ومن ثم اكتفاء الآليات الطبيعية واستقلالها بذاتها في إيجاد الانتواع في الكائنات الحية وجعل الإله مجرد فرضية زائدة في هذا المجال. ولكننا لا نستطيع أن نفهم أبدًا إصرار من يؤمن بالصانع الخبير إبتداءً على تلك المغالطات المنطقية وغض الطرف عن أدلة السجل الأحفوري لأجل إثبات مزور تدليسي للسلف المشترك والتدرج عنه والذي لا يمثل أية ضرورة في عقيدة الإله الصانع الخبير!. فلماذا يلتزمون بلوازم باطلة واهية تخالف المنطق والمشاهدات ولا يضطر إليها إلا من يتبنى فلسفة إلحادية مع كونهم يعتقدون اعتقادًا راسخًا في الإله الصانع المتقن!.
وفي الختام؛ نود التأكيد على أننا نثق في إيمان هؤلاء كما يظهر لنا ولا نشكك فيه أبدًا. ولكننا فقط نبين عوار هذا النهج التلفيقي الذي يلجأ إليه هؤلاء ويقفزون به على الأدلة العلمية الحقيقية، ربما لمحاولتهم إمساك العصا من الوسط وإظهار عدم تصادمهم الكلي مع جزء كبير من المجتمع الأكاديمي الغربي الذي تنطلق كثير من أطروحاته من أسس فلسفية فاسدة كالعلموية والوضعية المنطقية وربما الإلحاد الصريح، والتي تجعل الآليات الطبيعية مفسرًا كافيًا مستقلًا لكل الظواهر الطبيعية كمسلمة أولية لا تقبل النقاش مهما خالفت المنطق والحس والتجريب. وفِي ذات الوقت تلبُس أنصار التطور الموجه بمنهجية فاسدة في التعامل مع النص الديني الواضح الصريح الذي تؤيده الأدلة العلمية، مما سهل عليهم تبني هذا التلفيق الساذج. فالمسلمون الذين يرفضون التطور الكبروي التدريجي من سلف مشترك في المخلوقات (غير الإنسان) لا يأسسون رفضهم هذا على الأدلة الشرعية التي لا تنفي ولا تثبت التطور في هذه المخلوقات، بل يرفضونه بناءً على الأدلة العلمية الراجحة جدًا بدءً من السجل الأحفوري والتعقيد غير قابل للاختزال وسقوط الأدلة المضادة واحدة تلو الأخرى مثل أجنة هيكل والحلقات الوسيطة الخرافية والأعضاء الأثرية الضامرة والأخطاء المشتركة في البيولوجيا الجزيئيّة (وهذان الأخيران لا يصح أصلا لأنصار التطور الموجه الاحتجاج بهما لنفيهما الغائية والإحكام!)، وكذلك حياد أدلة التشابه والتناظر المورفولوجي والجزيئي (على أقل تقدير). أما رفضهم السلف المشترك في الإنسان فهو يقوم على أدلة شرعية هي محل إجماع المجتمع العلمي الفقهي على مدار ١٤٠٠ عام، بجانب الأدلة العلمية البيولوجية الحديثة التي سبق ذكرها.
وهم كذلك لا يوجبون خلقا من عدم كما يتصور بعض أنصار التطور الموجه، ولا يوجبون خلقًا مباشرًا من غير توسط أسباب تفتقر إلى الخالق، ولا ينكرون بشكل ضروري جواز وجود خط عام في خلق المخلوقات من الأبسط إلى الأعقد . بل الراجح عندهم الخلق من مخلوق سابق، تماما كالإنسان الذي خُلق من طين، بل في أطوار طينية كما قرر ذلك بعض المفسرين المعتبرين. والأصل عندهم كذلك الخلق بالأسباب المفتقرة إلى الله والتي قد تكون مشاهدة أو غير مشاهدة. و أما جواز وجود خط عام في خلق المخلوقات من الأبسط إلى الأعقد، فلا يوجد ما يخالفه شرعًا، بل قد يُستدل ببعض النصوص الشرعية على وجود هذا الخط العام. ولكن كل هذا لا يوجب ولا يرجح أبدًا سلفًا مشتركًا وتطورًا تدريجيًّا ينطلق منه، تخالفه كل الأدلة الحسية التجريبية بل والدينية في حالة الإنسان!.