يقول ابن خلدون في مقدمته -الفصل الثالث و العشرين-:
«في أن المَغلوب مُولع أبداً بتقليد الغالِب في شِعاره وزِيه ونُحلته وسائِر أحواله وعوائِده».
يتولد لدى المَغلوب عادةً إحساس بقوة الغالِب و تفوقه مما يؤدي للتبعية، و تبني أفكاره و عاداته، ليس هذا فحسب، بل التقليد السلوكي لا يكون في مجال الإبداع و الإنجاز العلمي، بل في الشكليات و المظاهر التافهة التي لا فائدة منها لا على صعيد الفرد نفسه ولا على صعيد المجتمع. و الأكثر من ذلك أنها تتناقض تماماً مع القيم و التراث والعقيدة الإسلامية.
ولأن التفكير في أسباب الهزيمة أمر معقد بالنسبة للمُقلد، وبسبب الظروف التي فُرضت على البلاد العربية و الإسلامية و تقسيمها، مما أدى لضياع الهوية الإسلامية، كان تقليد الغالِب هو السبيل الأيسر لمواكبة الحياة بعيداً عن عناء التفكير و الخوض في تفاصيل الهزيمة و مُحاولة تصحيح المسار.
اذن يمكن القول أن المُقلد قد اتبع نهج الغالِب بحرِيَته و بإرادته ولكن ليس اقتناعاً على -علم و معرفة- بل استسلاماً لواقع الأمر.
يُوضح محمد الباقر الحاج يعقوب في مؤلفه- التصور الإسلامي للعلم و أثره في إدارة المعرفة- الفرق بين ما اتبعه المُقلدون من عادات و مظاهر و أفكار غربية و بين ما يدعو إليه الدين الاسلامي. حيث أنه قلما نجد ديناً حضَ أمته على العِلم والتعلُم أوضح من الدين الإسلامي ، ويُكرم الطالب للعِلم والعُلماء، حيث اقترن
مكانة العِلم والمعرفة بالإيمان في قوله تعالى:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)”-(المجادلة).
وعلى هذا المفهوم، قد بنى الإسلام أمته على أساس العِلم والمعرفة، بحيث نزل أول وحي على الرسول صلى الله عليه و سلم بصيغة الأمر، ويرفض التقليد أساساً دينياً رفضاً باتاً، لا استثناء فيه ولا جِدال:
” اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ “-(العلق).
يعقب -محمد الباقر الحاج يعقوب- بالقول:
“إن المسألة هي أن الله لا يريد لنا أن نُكره إنساناً على الالتزام بأية قناعة خالية من الفِكر، وأن مسألة الدين ليست من المسائل التي يمكن لإنسان أن يُكره إنساناً آخر عليها، وإن مسألة الإيمان المبني على العِلم والمعرفة ، وليست من المسائل التي يُمكن أن تخضع للضغط والإكراه، باعتبار أنها من تعاليم الدين المُقدس الذي لا يقبل النقاش ولا النظر الفِكري، وأنها قضية ترجِع إلى الإدراك الوجداني للحقائق العلمية والمعرفية التي يتحرك بها العقل والمشاعر، والسعي إليهما بواسطة القراءة والقلم:
” لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)” (البقرة).
وكذلك هي مسألة النظام والقانون، قد يستطيع أحد أن يضغط على أحد آخر بالحبس في زنزانة مثلاً من أجل الخُضوع إلى النظام، ولكنه لا يستطيع أن يُحرك أي مِفصل من مَفاصل عقله ووجدانِه إتجاه حقيقة من الحقائق، مهما يكن من الضغط عليه بشكل مباشر أو غير مباشر”.
ومن هنا لابد أن يحذر كل منا ، ويراجع نفسه كيف بنى دِينه ودُنياه، ونحن نعيش جنباً بجنب مع -الآخرين/ الغالبين- الذين بنوا تصرفاتهم وسلوكياتهم اليومية على أساس القناعة العلمية والمنطقية السليمة. وأما المُقلدون من أبناء أمتنا فظلو يتحركون مع فكر الآخر-الغالِب- فيما يملك من العناصر بعيداً عن قناعة عقلية، لا يتحركون إلا بتحرُكهم ، ولا ينطلقون من منطلق مسلم ذاتي، بل يُحاكون -الغالب- في كل أفكاره، تصرفاته و توجهاته.
فالمُقلدون الذين انقادو خلف أفكار الآخرين دون تفكُر و معرفة، لا يمكن لهم أن يُحققو نهضة في مجتمعاتهم، حيث إن إدارة المعرفة أو المعلومات و التعامل معها يتحكم بشكل رئيسي بنتائج المعرفة، فاما رقي و نهوض او حياة فوضاوية.
يضيف -محمد الباقر الحاج يعقوب-:
“ومما لاشك فيه، أن االله تعالى لا ينظر إلى عِلم الإنسان بذاته، ولكن ينظر إلى طريقته التي اكتسب بها ذلك العلم والمعرفة، وذلك لأن تلك الطريقة سوف تُؤثر في نوعية التطبيق بهما. وأن العمل الذي قام به الإنسان في الحقيقة مبني على نوعية المعرفة وإدراكه لحقيقتها، وأهدافه في استخدامها. وهذا يعني أن عمله هو انعكاس لتلك المعرفة المخزونة في نفسه. وإذا كانت تلك المعرفة صحيحة وسليمة فسوف نجد نتائج عمله صحيحة وسليمة كذلك”.
“وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105)”-(التوبة)
وتأكيداً على ضرورة التعلُم و أهميته و الحث عليه، يقول الشافعي-(ديوان الشافعي، ص 70- قافية اللام):
تعلّم فليس المرءُ يولد عالماً
وَلَيْسَ أخو عِلْمٍ كَمَنْ هُوَ جَاهِلُ
وإنَّ كَبِير الْقَوْمِ لاَ علْمَ عِنْدَهُ
صَغيرٌ إذا الْتَفَّتْ عَلَيهِ الْجَحَافِلُ
وإنَّ صَغيرَ القَومِ إنْ كانَ عَالِمًا
كَبيرٌ إذا رُدَّتْ إليهِ المحَافِلُ