يقال في الأمثال: “مصائب قوم عند قوم فوائد”، وهو ما ينطبق على حالة المريض (هنري مولاسون) الذي يرمز له بـ(H.M.) وهو أشهر مريض معروف في الطب النفسي؛ حيث فتحت معاناته باب علم لم يكن مفتوحًا من قبل.
هنري مريض عانى من نوبات صرعية شديدة نتيجة لإصابة سابقة في الدماغ والذي لم يستجب للأدوية المضادة للصرع مما اضطر الأطباء لعمل جراحة لاستئصال جزء من المخ اعتقدوا أنه المتسبب في النوبات الصرعية، وذلك كعلاج أخير للحد من هذه النوبات، فقام الأطباء بإزالة الحصين (hippocampus) بالإضافة لبعض الأنسجة الملاصقة له؛ وكانت النتيجة أنّه بالفعل تحسن المريض بنسبة كبيرة من النوبات الصرعية؛ لكن ماذا حدث مع ذلك؟
المفاجأة أنه أصبح عاجزًا عن تكوين ذاكرة جديدة بمعنى أنه أصبح غير قادر على تذكر معلومة جديدة بعد دقائق قليلة، فكان الأطباء يضطرون للتعريف بأنفسهم في كل مرة يقابلونه؛ كان فقط يستطيع أن يتذكر الذكريات القديمة التي تسبق العمل الجراحي.
رغم ذلك كان هنري قادرًا على اكتساب مهارات حركية جديدة وتكرارها خلال زمن معين مع أنه لا يتذكر أنه تعلم هذه المهارات بعد مرور وقت أطول، وقد استثمر العلماء هذه الحادثة، فوُضع هنري تحت الدراسة منذ (1950) حتى وفاته في سنة (2008)، وقد أسست دراسة حالته المبادئ الرئيسية لفهم تصنيفات الذاكرة وآليات عملها.
وإليكم ما استفاده العلماء من دراسة حالة المريض هنري:
1- كان العلماء يعتقدون أن وظائف الذاكرة في القشرة المخية مندمجة مع وظائف الإدراك والتفكير، لكنهم استنتجوا من هذه الدراسة أن الذاكرة وظيفة متمايزة (متفردة) للقشرة المخية منفصلة عن الوظائف الإدراكية والتفكير.
2- استنتج العلماء أيضًا أهمية الحصين وما يجاوره في الجانب الأنسي (الداخلي) للفص الصدغي من المخ والذي يشمل أيضًا: القشرة جانب الأنفية (pararihnal cortex)، والقشرة المجاورة للحصين (parahipocampal cortex)، والقشرة الشمّية الداخلية (entorihnal cortex) في عملية التذكر.
3- حفز الباحثين لعمل ودراسة نماذج حيوانية لضعف الذاكرة.
4- أيدت قدرة المريض هنري على الاحتفاظ وتكرار معلومات بسيطة لعدة دقائق التمييز بين الذاكرة قصيرة الأمد والذاكرة طويلة الأمد.
5- قسّم العلماء الذاكرة إلى نوعين رئيسيين بناءً على حالة المريض هنري:
أ- الذاكرة الصريحة: وهي الذاكرة التي تأثرت بشكل كبير في هذا المريض والتي تعتمد بشكل كبير على الحصين.
ب- الذاكرة الضمنية: والتي تشمل المهارات الحركية، وتعلم العادات، والتكيف البسيط، والتعلم المرتبط بالعاطفة، وهذا النوع من الذاكرة يعتمد على النوى القاعدية (basal ganglia)، والمخيخ (Cerebellum)، واللوزة (Amygdala)، والقشرة الحديثة (neocortex).
للتعرف أكثر على أقسام الذاكرة راجع مقالنا السابق: هنا
وقد وضع العلماء عدة نظريات لآلية تكوين الذاكرة الصريحة ودور الحصين في حفظها، وسنتناول أهمها في المقال القادم إن شاء الله.
.