لا تفسر القوانينُ الحالية للفيزياء سببَ بقاء المادة في مقابل المادة المضادة في الكون، أي لماذا يتكون الكون من «المادّة». فمن المعلوم أن جُزيْئًا من المادة وآخَرَ من المادّة المضادّة يُلغي أحدُهما الآخر، وينتج عن هذا التفاعل انبعاث طاقة على شكل فوتونات. يعتقد العلماء أن المادّة والمادّة المضادّة قد أُنْشِئتا بنسب متساوية في بداية الكون، ولكن هذا يعني وجوبَ أن يكونَ كلٌّ قد أزال الآخَرَ؛ مما يؤدي إلى فناء المادّة في الكون من بدايته.
في المقابل، يقترح العلماء وجوب كون المادة ومضادتها تتصرفان بشكل مختلف؛ مما قد يفسر لماذا بقيت المادة بل انتشرت كثيرًا في الكون. فكل جسيم مادي له مادة مضادة مساوية، والنيوترينوات لا تختلف عن ذلك، حيث إن لها مقابلًا، هو النيوترينوات المضادة.
فيجب إذًا أن تكون خصائصهما وسلوكهما متضادين، فهذا ما يجعل كلًّا منهما يُفني الآخَرَ عند التَماس.
ولكن الآن اكتشف فريق بحثي عالمي -مكون من باحثين يمثلون مجموعة التعاون T2K ومنها علماء الكلية الملكية في لندن- أقوى دليل حتى الآن على أن النيوترينوات ومضاداتها تسلك سلوكًا مختلفًا، ومن ثَمَّ قد لا يُفني بعضُها بعضًا.
يقول د. باتريك دون، من قسم الفيزياء في الكلية الملكية: «هذه النتيجة تقرّبنا أكثر مما سبق من الإجابة عن السؤال الرئيسي: لماذا استمرت المادة بالبقاء في هذا الكون؟ فإن أثبت ذلك، حيث إننا واثقون بنسبة 95% حاليًّا، فسوف يكون هناك آثار عميقة بعلم الفيزياء؛ مما ينبغي أن يرشد إلى فهم أفضل لكيفية نشوء الكون».
وجد العلماء سابقًا بعض الاختلافات في السلوك بين الصور المادية والمضادة للمادة من الجسيمات دون الذرية، التي تُسمَّى الكواركات، ولكن الاختلافات الملحوظة حتى الآن لا تبدو كبيرةً كفاية لتعبر عن هيمنة المادة في الكون.
أما النتائج الجديدة لمجموعة T2K فهي تعبر عن وجود اختلافات كبيرة فعلًا بين سلوك النيوترينوات ومضاداتها، فالنيوترينوات جسيمات أساسية ولكنها لا تتفاعل مع المادة العادية بقوة كبيرة، إذ إن ما يقارب 50 تريليون نيوترينو من الشمس تمر خلال أجسامنا كلَّ ثانية.
تظهر النيوترينوات ومضاداتها في ثلاث «نكهات» أو صور، عُرفت بالميون والإلكترون والتاو. فعند انتقالها يمكنها الاهتزاز لتتغير إلى نكهة أو صورة مختلفة. فحقيقة أن نيوترينوات الميون تهتز لتصبح نيوترينوات الإلكترون، قد اكتُشفَت من خلال تجربة T2K في عام 2013.
ومن أجل الإتيان بنتائج جديدة، أطلق الفريق البحثي حِزَمًا من نيوترينوات الميون ومضاداتها من منشأة J-PARC في توكاي باليابان، ورصدوا حينئذ عدد نيوترينوات الإلكترون ومضاداتها الواردة عند مكشاف سوبر كاميوكاندي الواقع على بعد 295 كم.
فبحث العلماء عن الاختلافات في كيفية تغيير النيوترينوات ومضاداتها لنكهاتها، فوجدوا أن النيوترينوات تبدو أكثر احتمالًا للتغير من النيوترينوات المضادة.
تدحض كذلك البياناتُ المتاحة احتمالَ كون النيوترينوات ومضاداتها متماثلة في تغير نكهاتها؛ إذ قال د. دون: «ما تظهره نتائجنا هو أننا واثقون بنسبة 95% من أن النيوترينوات ومضاداتها تتصرف بشكل مختلف. يُعتبر هذا اكتشافًا مهمًّا بحد ذاته، وإن كنا من قبل نعرف كثيرًا عن جسيمات أخرى تظهر فروقًا بين المادة والمادة المضادة، إلا أن هذه الفروق أصغر كثيرًا من أن تكون قادرة على تفسير طغيان المادة على مضادّتها في الكون. لذلك فإن قياس حجم الفارق هو ما يعنينا لتحديد ما إنْ كانت النيوترينوات تستطيع أن تجيب عن هذا السؤال الجوهري. بخلاف الجسيمات الأخرى، تشير النتيجة الحالية إلى أن نتائج النيوترينوات متوافقة مع كثير من النظريات المفسرة لمصدر هيمنة المادة على الكون».
ولكن على الرغم من أن هذه النتيجة هي أقوى دليل حتى الآن لاختلاف السلوك بين النيوترينوات ومضاداتها، فإن مجموعة التعاون T2K تعمل جاهدة على تقليل أي نسبة شك وتحاول جمع بيانات أكثر عن طريق تطوير المكشافات (أو العدادات) وخطوط الأشعة، ومنها عداد (أو مكشاف) كاميوكاندي الفائق الجديد ليكون بدلًا من مكشاف سوبر كاميوكاندي، وهناك تجربة جديدة تُدعى دون (DUNE) تحت الإنشاء في الولايات المتحدة الأمريكية، والكلية المَلكية مشاركة في كليهما.
كان الباحثون من الكلية الملكية قد شاركوا في مجموعة تعاون T2K منذ 2004، بدءًا من التصميمات المفاهيمية على السبورات البيضاء إلى البحث والتطوير لمكونات مكشاف الجسيمات الجديد، الذي كان الأساس لبناء هذه التجربة، التي اكتملت وبدأ العمل فيها في 2010.
أما بالنسبة إلى النتيجة الأخيرة، فقد شارك الفريق في التحليل الإحصائي للنتائج وفي التوثق من أن الإشارة الملحوظة حقيقية، كما شاركوا في تضمين آثار كيفية تفاعل النيوترينوات مع المادة، التي تعد إحدى أكبر مصادر الشك التي تدخل في التحليل.
يقول الأستاذ يوشي أوشيدا: «عندما بدأنا، كنا نعلم أن رؤية مؤشرات على الاختلافات بين النيوترينوات ومضاداتها بهذه الكيفية أمرٌ قد يستغرق عشرات السنين، هذا إن أمكن رؤيتها على الإطلاق؛ لذلك فإنه تقريبًا كالحلم أن نرى نتيجتنا يُحتفى بها على غلاف مجلة نيتشر Nature هذا الأسبوع».
المصدر :
https://www.sciencedaily.com/releases/2020/04/200415133657.htm?fbclid=IwAR30mxdIMQS72JKCnqgOIePUCeAwJH1WJ0lI_FkA2aX3ZUxSqRd2iLg0cmU