الدّولةُ العثمانيّةُ والمثليّة الجنسيّة!
عنوانٌ برّاقٌ وجذّابٌ ولكنّه لا يصمد أمام أيّ بحثٍ علميّ محايدٍ، تعالوا معنا في السّطور القادمةِ نَبحث في هذا العنوان.
قبل فترةٍ نشر بعضهم أن المثليّة الجنسيّة كانت شائعةً في الدّولة العثمانيّة، فما مدى صحةِ هذا الكلامِ؟ وما دقّته؟
يدَّعون زُورًا أنّ هناك ظاهرة تُدعى (Köçek) انتشرت من القرن 17 حتّى 19، وهم صبيان صغار، من سنّ السّابعة يتمّ تدريبهم على الرّقص و ارتداءِ ملابسِ الإناثِ، يُختارون من بين غير المسلمينَ عبر ما يعرف بضريبةِ الدّم أو الأفراد، ويقومون بالعزف على الآلات، و يرقصون للرّجال بالحانات و القصور السّلطانيّة، و يضعون أدوات التّجميل كالنّساء تمامًا، و قد كُتِب فيهم الشّعرُ، و لُحّنت لهم الموسيقى.
و مع انتشارهم و تقاتل النّاس عليهم من أجل الظفر بهم، منع السّلطان محمود الثاني الرّقص بالحاناتِ حتّى لا يتحوّل الأمر إلى فوضى، خاصة مع تحوّل الـ Köçek إلى سلطةٍ كبيرة دفعت بعض الجواري لقتلهم لحظوتهم بالقصور السلطانية على الجواري..
إلى هنا انتهى الإدعاء.
————————-
إنّه كلام مضحك smile emoticon ، وبإمكان أيّ مختصّ بالتّاريخ العثمانيّ أن يردّ عليه.
ولكن للأسف بُلِينا بأناس يصدّقون كلامَ الغربيّين ويضربون بالحائط كلام غيرهم، وأقول كلام الغربيين ولا أقول كلام مؤرخيهم.
تعالوا معنا نفنّد هذا الإدّعاء، في ثلاث ردود:
#الرد_الأول
بعد تتبّع مصدرِ هذا الكلام، وجدته ينتهي عند شخصين اثنين
1- الدكتورة الهولندية Danielle J. van Dobben
حاصلةٌ على شهادةِ الدكتوراه من جامعة أريزونا ((طالبة دكتوراه في انثروبولوجي (علم الإنسان) الثّقافي الاجتماعي، عملت على رسالة الدكتوراه على ارض الواقع في اسطنبول -تركيا- لمدة شهرين، وكان عنوان الرّسالةِ “تأثير السولكول مع الدّولة والعلاقات التجاريّة وعلاقات المجتمع المدني في المجتمعات التركيّة الرومانيّة”))
و السولكول: منطقةٌ باسطنبول يسكنها الغجرُ في العصرِ العثمانيّ، كانت مشهورةً بوجود حاناتٍ للغناءِ و الرّقص.
فبالله عليكم هل تمثّل منطقة السولكول الدّولة بأكملها؟
2- اليوناني Stavros Stavrou Karayanni
مؤلف كتاب Dancing Fear and Desire: Race, Sexuality, and Imperial Politics in Middle Eastern Dance
سأتجاوز نقطةَ كَوْنِ المؤلّف يونانيّا، وتعلمون العداء التاريخيّ اليونانيّ التّركي، وأقرأُ
نبذةً عن الكتاب في موقع goodreads
وجدت في هذه النّبذةِ أنّ:
هدفَ الكتابِ دراسةُ الرّقص وربطُه بالخوفِ والرّغبةِ في الشّرق الأوسط مستعينًا بمراجعَ غربيّةٍ بناءً على تحقيقٍ تاريخيٍّ وتحليلٍ نظَريّ وتفكيرٍ شخصيٍّ (استبطان) مقارناً ذلك بمسرحيّة “أوسكار وايلد سالومي”.
فما رأيكم بهذا الكلامِ؟
عندما أريد أن أوثّق ظاهرةَ Köçek فإنّني بالتّأكيد أعتمدُ على مؤلّف يونانيٍّ مهتمّ بدراسةِ ظاهرةِ الرّقص في الشّرق الأوسط وأعتبر كلامه وثيقةً تاريخيّةً غير قابلةٍ للطّعن، وأضربُ الأرشيفَ العثمانيّ كلّه عرضَ الحائطِ، المنطق والمنهجيّة التاريخيّة تقتضي ذلك، أليس كذلك؟
بعد هذا العرض رُبَّ معترض يقول:
ولكن إن فتحنا المواقع الحكوميّةَ التركيّةَ الخاصّةَ بالتّرويجِ السّياحيِّ فإنّها ستستفيض بالمعلومات عن هذا المصطلح Köçek وتعتبره نوعًا من الرّقص المنتشر في تركيا، لا بل ستجلب إليك صورًا تاريخيّة لممارسة هذا الرّقص.
ولنأخذ مثالاً على ذلك موقع turkishculture
ولو وضعت مصطلح Köçek على البحث في موقع اليوتيوب ستجد الكثير من الرّقصات التي يؤديها رجال يلبسون لباس النّساء.
جواباً على هذه النّقطة:
1-نقاشي ينحصِر في نقطة أن هذا المصطلح Köçek هل تمّت ممارستُه في تاريخ الدّولة العثمانيّة كما قالت المصادر التي أشارت لذلك (وبينت زيف هذه المصادر) أم لا.
ولم أناقش أو أنكر وجود فكرة الرّقص في التّاريخِ العثمانيّ كما تمارسه بعض الطرق الصّوفية كرقصة “المولوية” وهو بحث مختلف تماماً عمَّ بين أيدينا.
2-حتّى مواقعُ التّرويجِ الحكوميّةِ التركيّة عندما تضع صورًا تنسبها للتّاريخِ العثمانيّ فهي تُحذّرك والكلام منقول من موقع turkishculture
((When exploring the history of Ottoman dance it is important not to confuse such authentic documents with the works of European Orientalist painters))
عند البحثِ في تاريخِ الرّقص العثمانيّ، من المهمّ عدمُ الخلطِ بين الوثائق الحقيقيّة وأعمال المستشرقينَ الأوربيّينَ، فكثيرٌ وكثيرٌ من الرّسامين الأوروبيّين والرّحّالةِ كانوا يرسُمون صورًا من نسج خيالهِم ثمّ يأتي المؤرّخونَ الغربيونَ حاليًّا ليبنوا “حقائقَ تاريخيةً” على هذه الصّور!
#الرد_الثاني:
كانت أجهزة الدّولةِ العثمانيّة تضمّ عددًا كبيرًا من العلماءِ ذَوي الصّلاحيّاتِ من فئةِ رجال العِلم وهو الأمرُ الذي يقتضيه تركيبُ تلك الأجهزةِ و الأسُسَ التي تقوم عليها. ومن هذه المناصِب:
1-منصبُ “قاضي العسكر”: وكان يُختارُ من العلماء المعروفين ويملك صلاحيّات واسعةً، حتى على السّلطان العثمانيّ نفسه، وهو الذي يمثّل الشرع في أجهزة الدولة العثمانية.
2-منصب “شيخ الإسلام”: وهو المنصب الثّالث في الدّولة بعد السّلطان والصّدر الأعظم، وشيخ الإسلام مسؤول عن إدارة جهازِ الإفتاءِ وإدارةِ شؤون كبارِ المدرّسين والقضاة، وهو رئيس للعلماء.
وبناءً على ما سبق، فمع هذه الأجهزةِ وهذه المناصبِ والمؤسّسات وما تملكه من صلاحيّاتٍ، أيُعقل أن تتحول الـ Köçek إلى ظاهرةٍ، لا بل تصل إلى القصور السّلطانية وعلى مدى قرنين من الزّمانِ؟ ثمّ لا نرى استنكاراً ولو بكلمة من قاضي العسكر و شيخ الإسلام وكلّ العلماء على هذا الفعل المحرّم في الشّريعة الإسلاميّة؟!
#الرد_الثالث:
إن أشدّ المؤرّخين الغربيّين (وأشدّد على لفظِ المؤرّخين) المتحاملِين على الدّولة العثمانيّة لم يذكروا هذه الظّاهرة (Köçek) ولم يشيروا إليها أيّ إشارةٍ في مؤلَّفاتهم، وكلّ ما ذكروه هو ما يتعلّق بضريبةِ الدوشرمة، ولها عدّة تسمياتٍ أخرى مثل ((ضريبة الدّم أو ضريبة الغِلمان)) وكلُّ من يتّهم العثمانيّين بـ Köçek يبني كلامَه على مصطلح الدوشرمة
يقول المؤرّخ “ستانفورد شو” في كتاب “تاريخ الإمبراطوريّة العثمانيّة وتركيا الحديثة” : إنّه من السهل في زمننا أن نُدين نظامَ ضريبةِ الدوشرمة الذي كان يَفرِض انتزاع نسبةٍ من الفتيان الأرثوذكس من أسرِهم وإلحاقَهم بالجيشِ الإنكشاريّ العثمانيّ بعد تغيير دينِهم إلى الإسلامِ، ولكن علينا أن نَزن هذه المُمارسةَ بموازينِ القرنِ السادس عشر و سنجد أنّها كانت توفّر مجالاً مرِناً للحراك الاجتماعيّ يمكِن فيه لأصحاب المَواهب أن يَصعدوا إلى أهمّ المناصبِ في الدّولة، ولهذا كان هناك آباءٌ من المسيحيّين والمسلِمين أيضًا يقدّمون الرّشوة لإرسال أبنائهم ضِمْن الدوشرمة انقيادًا للإغراءات الشّديدةِ التي يُقدّمها الصّعود الاجتماعيّ الذي يمكن لصاحبه أن يصل إلى درجةِ الصّدر الأعظمِ خلف السّلطان مباشرةً.
يقول المؤرّخ “دونالد كواترت” أنّ نظام الدوشرمة أتاح الفرصة “للآلاف من أبناء الفلاحين المسيحيّين لشغل أرفع المناصِب العسكريّة والإداريّة، والشّيء نفسه يمكن أن يقال عن أبناء العشائر التركيّةِ الفقيرةِ” و أنّهم كانوا يتدرّبون بعنايةٍ ويُربَّون تربيةً إسلاميّةً، وهي ممارسةٌ لم تكن تَختلف عن مُمارساتِ غيرِ العثمانيّين..
ويقول المؤرّخ “جودفري جودوين” في كتابه عن الإنكشاريّة أنّ أفرادَ الإنكشاريّة لم يكونوا يفقدون صِلاتهم بأُسَرِهم و كانوا يُقدّمون الرّعايةَ لهم ويتّصلون بهم باستمرار في قُراهُم الأصليّة، و لم يَكن هذا النّظامُ يَلقى مقاومةً تُذكر في البلقان، وهو نظامٌ قديمٌ وُجِد قَبل العثمانيّين بزمنٍ طويلٍ.
ويقول المؤرّخ الأمريكي “زاكري كارابل” أنّ تجنيد فِتيان البلقان و القوقاز من النّواحي القليلةِ التي أثارت اعتراضاتٍ على الحُكم العثمانيّ، ولكنّ كونهم عبيدًا للسّلطان لم يكن يعني العبوديّة على الطّراز الأمريكيّ، فعَلى نقيض الأرقّاء الأفارقةِ في الولاياتِ المتّحدةِ، كان الإنكشارية في الدّولةِ العثمانيّة من نواحٍ عديدة نخبةً ذات امتيازاتٍ كبيرة، وكانوا طَبَقَةً حاكِمةً في دولةٍ إمبراطوريّة، وقد تمتّعوا بالمزايا النّاجمة عن ذلك، وإذا كان الغرب قد شجب هذه الممارسة، فإن الفرصة لترقّي المجنّدين لمناصب عالية في الدّولة العثمانيّة لم تَبدُ بمثابةِ ظلمٍ فادحٍ في نظرِ الكثيرِ من العائلات، و عندما كان ملوك فرنسا و إسبانيا في حاجةٍ لتكوين الجيوش “كانت قوّاتُهم أيضًا تدخل القُرَى و تسوق بعنف كلّ الشّبان القادرين على القتال دون أن تتجشّم عناء السؤال”، بل سنجد مثلا أن فلاّحي جزيرةِ كريت يُقبِلون على الدّخول في الإسلام بنسبة أكبر من بقيّة أجزاء الدّولة العثمانيّة بسبب تطلّعهم إلى دخول سلك الانكشارية، وهذا مما يؤكّد وجوب وضع الأحداث في سياقها الزمني وليس وفقا لعصور لاحقة.
وبناءً على آراء المؤرّخين السّابقين يمكننا القول:
1-ضريبة الدوشرمة لم تكن على المسيحيّين فقط بل كانت على العشائر التركية أيضاً
2-الشّخصُ المنتسِب للانكشاريّةِ وِفق هذا النّظام يمكنه أن يصل لأرفعِ مناصبِ الدّولة حتى منصب الصّدرِ الأعظمِ نائب السّلطان، فهل هذه عبوديّة؟!
3-المُنتسبون للانكشارية وِفق هذا النظام لم يَفقدوا صِلتَهم بأهلهم كما يوحي البعض
4-هذا النّظام لم يَلقَ مقاومةً في منطقة البلقان و هو نظامٌ قديمٌ موجودٌ في المِنطَقة قبل وجود العثمانيّين.
والآن لِنفرض جدلاً أن هذه الضّريبة وُجدت بالصّيغة المُشينة التي ذَكرها المؤرّخون الغَربيّون، فهم مجمعون على أنّها توقّفت في بداية القرن الثّامن عشر، أي أنّ الدّولة العثمانيّة عاشت بعدها أكثَر من قرنين دون مُمارستها، وهو ما يؤكّد أنّ مِن حقّ الأُمم أن تأخذ مَجرَى حياتها فتُصحّح أوضاعها دون تدخّلات خارجيّة فجّة، وذلك كما تطوّر الغربيّون داخل بلادِهم دون تدخّلات مُعرقِلة، هذا إذا عددنا إيقاف الدوشرمة خيرًا، خلافًا للموازين النفعيّة البراغماتية التي ترى أنّ هذا النّظام كان من أسباب صُعود العثمانيّين.
أما الغرب فإنه لا يحقّ له إلقاء دروسٍ أخلاقيّةٍ في وقتٍ قامت فيه نهضته الصّناعية على استغلال عملِ ملايينِ الأطفالِ في ظروفٍ مُزرية أصيبت فيها أعداد هائلة منهم بالإعاقات بل الوفاة، وأيضا استغلال الأطفال في الحروب الطّاحنة و ما زالت الصّور ماثلةً لكثيرٍ منهم ممن شاركوا في الحرب الأهليّة الأمريكيّة (1861-1865)
والفرق بين الظّاهرة العثمانيّة، التي انتهت في بدايةِ القرنِ الثامن عشر، والظاهرةِ الأوروبيّةِ التي بدأت في بداية القرن التاسع عشر (بينهما حوالي قرنٍ من الزّمان) أنّ ضريبة الدوشرمة العثمانيّة كانت رَغم كلِّ ما قيل عنها وسيلةً للصعود الاجتماعيّ والسياسيّ والعسكريّ لأولئك الأطفالِ في جِهاز الدّولة، أمّا الظّاهرةُ الأوروبيّة فكانت وسيلةً للاضطهاد بَنَت عليها أوروبا وأمريكا النهضة الصناعيّة، وفي ذلك تقول موسوعة New Standard Encyclopedia:
“عمالة الأطفال واحدةٌ من أسوأ المشاكلِ التي أنتجها النّظام الصّناعي، وفي إنكلترا بداية القرن التاسع عشر كان الأطفال يَعملون في مصانِع مظلمةٍ وقذرةٍ، وفي بعض الأحيان يوثَّقون بالسّلاسل في الآلات التي يعملون عليها من شروق الشّمس إلى غروبها، وفي الولايات المتحدة كان أطفالٌ صغارٌ بعمُر ثمانِ سنواتٍ يعملون في المعامل و في مصانعِ التّعليب وحتّى المناجِمِ لمدّة 14 ساعة في اليوم…وظلت المُشكلةُ خطيرةً إلى ثلاثينيّات القرن العشرينَ”