الرد على الدحيح حلقة السفاح
بقلم الدكتور أحمد إبراهيم .
الحلقة تدعو إلي معالجة الجاني بدلا من التربص به لعقابه و هذه دعوة نبيلة بلا شك لكنها ستكون كذلك فقط حين نكون قادرين علي أن نختار بين المعالجة والمعاقبة
و حين يكون الجاني أيضا مختار بين الفعل و عدم الفعل أما لو كنا آلات بيولوجية تسيرها الجينات و النشاطات الدماغية فلا معني هنا للنبل و إنما غاية ما في الأمر أنها عملية صيانة دورية لبعض الآلات البيولوجية بغرض تحسين أداءها.
تشيزري لومبروزو الطبيب الإيطالي وضع نظريته في الجريمة علي أسس مادية عام 1870و كان ينادي أيضا بالتعامل مع الجريمة علي أنها مرض و أنها بحاجة إلى العلاج و ليس العقاب لأن المجرم مسير فيما يفعل و لا خيار له .
و كان حينها يصنف المجرمين علي أنهم نوع آخر أقل تطوراً من الإنسان و يمكن التعرف عليهم و التنبوء بسلوكهم الإجرامي من تفاصيل الوجه و الجمجمة و كان يفسر انتشار الوشم بين المجرمين بأنه علامة علي أنهم لا يشعرون بالألم و لا يستوعبونه .
وهذا كله تفسير مادي يختزل الإنسان في عوامل طبيعية قد تتغير مع التقدم العلمي لتكون اليوم هي الجينات أو النشاطات الدماغية الوظيفية لكنها للأسف يجب أن تبقي عوامل طبيعية و يجب أن يتم اختزال أي ظاهرة بداخلها حتي لو كانت الظاهرة هي الوعي أو الإرادة الحرة أو غير ذلك من الظواهر التي لا نملك دليلا واحداً على إمكانية تفسيرها ماديا .
و هنا نود أن ننبه أن إثبات الإرادة الحرة و الوعي لا يعني أبدا أنه لا توجد عوامل بيولوجية مؤثرة . لكن يعني أن هذا التأثير لا يلغي الوعي و الإرادة الحرة .
فلو فرضنا أن هناك فعلا ترابطاً بين ورم في مكان معينٍ و بين تناقص الشعور بالخوف ، فهذا قد يجعلك مجرما و قد يجعلك أيضا بطلا شجاعا !!.
و لو فرضنا أن هناك ورم يؤدي إلي تناقص الشعور بالتعاطف فهذا قد يجعلك مجرماً و قد يجعلك أيضاً عقلانيا حكيما . ففي النهاية أنتَ الذي يختار .
لكن و كما بيانه في الرد السابق فليس هناك دليل علي وجود ترابط سببي بين مكان وجود الورم أو النسيج الذي تواجد فيه وبين الأثر النفسي المترتب عليه
A review of the literature indicates that there is no association between psychiatric symptoms and tumor location or histological type
و أما لو كان الأمر عبارة عن غياب للوعي أو نوبات جنون مؤقتٍ كتلك التي يمكن أن تحدث لشخص عادي فيأخذ سلاحه و يقتل كل من حوله بدون سبب، فهذا ليس دليلا علي أن المجرم ليس مذنباً . لأن هذا الشخص ليس مجرما أصلا لأنه كان فاقد للوعي في تلك الحالة.
و كما قال النبي صلي الله عليه و سلم (رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق…..)
إذن فالصواب هو أن هناك تأثير بيولوجي في الشخصية كما أن هناك تأثير نفسي فيها ولا يمكن اختزال الوعي في تلك العوامل البيولوجية بحجة أنها تؤثر لأن الحاكم الأول و الأخير هو الوعي .
فالطرح المتوازن الذي كان ينبغي علي الدحيح تقديمه هو أن نثبت أن هناك قابلية جينية و دماغية للسلوك الإجرامي لكن هذا لا يعني نفي الوعي و الإرادة الحرة ،و إنما يعني فقط وجود دوافع نفسية بشكل أو بآخر لا يمكنها تحويل الشخص إلي مجرم حقيقي إلا إذا أراد هو الانصياع لها و حينها سيكون مذنب فعلا و مستحق للعقاب و لن يكون ضحية لتلك الجينات و لا زومبي أو آلية بيولوجية تحركها نشاطات الدماغ
و تصنع لها أفكارها و إرادتها .
كذلك هناك أيضا دوافع بيئية و نفسية تؤثر علي شخصية الإنسان و هذا أيضا يبرز الجانب النفسي و الروحي في الإنسان فهو ليس روبوت يمكنك التنبوء بطباعه و ميوله إذا علمت تركيب حمضه الوراثي و خريطة دماغه الكهربائية .
و هذه دراسة علي التوائم (متطابقين جينيا ) الذين تربوا في بيئات مختلفة كأن تتبني أسرة أحدهما و تتبني أسرة أخري الآخر فتتيح لنا فرصة دراسة لنفس التركيبة الجينية في بيئات مختلفة و التي يفترض أنها لن تختلف أبدا لو كنا آلات بيولوجية تعمل وفقا لحتمية جينية .
لكن الدراسة تسجل خلاف ذلك و تخلص إلي نتيجة أن صنع القرار يتأثر بقدر متوسط بالعوامل الجينية و لكن التاثير الأكبر و الأقوي هو للعوامل البيئية . وأنه علي الرغم من وجود قدر من الأهمية “للقابلية” الجينية إلا أن الخبرات الفردية لها الدور الأكبر في توجيه صنع القرار .
In conclusion, our results show that decision-making as measured by the IGT performance was moderately stable between late childhood and adolescence. Importantly, however, individual differences in decision-making in the IGT was modestly influenced by genetic factors and more strongly influenced by non-shared environmental factors. Although genetic predispositions are of some importance, unique experiences appear to be of greater significance in guiding decision-making in youth throughout adolescence.
و هذه دراسة في نيتشر عن السلوك الإجرامي و علوم الأعصاب تقول :
أنه أصبح من الصعب القول بأن العوامل البيولوجية لا تجعل عند بعض الأشخاص “قابلية” للسلوك الإجرامي. و هذا الإستنتاج لا يقلل من و لا يستبدل التأثيرات الإجتماعية والبيئية التي تتسبب في ارتكاب الجرائم. العوامل الجينية و البيئية معا يؤثران علي العمليات النفسية المعقدة.
it is becoming increasingly harder to argue that biological factors do not predispose some individuals to adult crime. This conclusion neither diminishes nor replaces social and environmental perspectives on crime causation24, 29, 80.Together, genetic and environmental factors shape the way that biological systems develop and function and thus affect multiple complex psychological processes that are important in controlling and regulating behavior and in behaving morally.
إذن فنحن نتحدث عن قابلية أواستعداد أو دوافع و مؤثرات و لا نتحدث عن الصانع الحقيقي للوعي الذي يدير سلوكياتنا بشكل خفي ثم يوهمنا أننا لنا كيان يختار و يدرك. و هذا في أحسن أحواله يكون كالحديث عن الغرائز و ضغوط البيئة المحيطة التي يبتلي بها كل منا لكنها لا تلغي وعينا و لا إرادتنا الحرة مهما بلغت قوتها.
التوربيني مش بريء