قد يظن البعض عندما نذكر صفات التعاون والإيثار وأنها تهدم التطور وآلياته من الأساس : أننا نؤلف ذلك من عندنا أو نفتريه على التطور (النظرية) (الكاملة) (المتكاملة) التي (لا تخطيء) !! ولكن اليوم سنفسح المجال لبعض ما كتبه أحد أعضاء مبادرتنا الدكتور أحمد إبراهيم في كتابه الماتع (اختراق عقل) في ذلك فيقول (مع بعض التقديم والتأخير والتصرف اليسير) :
نظرية التطور تتنبأ بأن الفرد الاستغلالي غير المتعاون سيُحصل أرباحاً أكبر، لأنه يجني المنافع بوجوده في المجتمع المتعاون بدون أن يتكبد كلفة التعاون الباهظة وبالتالي فسيتغلب على المتعاون في أي مكان يجمع بينهما وسينصره الانتخاب الطبيعي أينما حل أو ارتحل (وكما في الشكل المرفق الذي رمز للمتعاون فيه بالرمز (w) ولغير المتعاون بالرمز (c) فلو حدثت أي ظروف مثل الهجرة أو الطفرات تسببت في وجود المتعاون في المجتمع نفسه مع غير المتعاون، فستكون النتيجة الحتمية هي تغلب غير المتعاون على المتعاون حتى ينقرض المتعاون بالكلية وهذه النتيجة بمقتضى آليات التطور نفسها) – وذلك كما تقرره وتفصله الورقة العلمية التالية بكل وضوح :
Brown, S. P., West, S. A., Diggle, S. P., & Griffin, A. S. (2009). Social evolution in micro-organisms and a Trojan horse approach to medical intervention strategies. Philos. Trans. R. Soc. Lond. B. Biol. Sci., 364(1533), 3157-3168
ونقرأ فيها أيضا :
” السلوكيات التعاونية التي من خصائصها تقديم النفع للآخرين شكلت مشكلة خاصة لعلماء الأحياء التطوريين ”
Cooperative behaviors that benefit other individuals have posed particular problems for evolutionary biologists
وكذلك :
” إذا كان تفسير التعاون هو واحدة من أكبر المشكلات التي تواجه نظرية التطور، فتفسير التعاون في الميكروبات هو واحد من أبرز الجوانب التي تجسد هذه المشكلة ”
If explaining cooperation is one of the greatest problems for evolutionary biology, then explaining cooperation in microbes is one of the key aspects of this problem
وفي هذه الورقة العلمية أيضا :
Xavier, J. B. (2011). Social interaction in synthetic and natural microbial communities. Molecular.systems biology, 7(1).
وفيها قولهم :
” نظرية التطور الاجتماعي كرست اهتماماً كبيراً لمعالجة المشكلة الأساسية في نظرية التطور التي تخص كيفية تفسير الصفات التعاونية ”
Social evolution theory has devoted considerable attention to the fundamental problem of the evolution of cooperative behavior
ومثل هذه الورقة العلمية أيضا :
Kreft, J. U. (2004). Biofilms promote altruism. Microbiology, 150(8),2751-2760
وفيها قولهم :
” أصل الإيثار هو مشكلة أساسية في نظرية التطور ”
The origin of altruism is a fundamental problem in evolution
فالسلوك التعاوني في الكائنات الحية كان من أشد الأزمات التي أعيت التطوريين في معالجتها. فوجود الصفات التعاونية بين الكائنات الحية معضلة تطورية كبيرة، والأدهى أنها ليست موجودة فحسب وإنما سائدة وواسعة الانتشار في مملكة الكائنات الحية.
فالكائنات الحية تعج بصور شتى لهذا التعاون من أصغر أفرادها إلى أكبرهم ولكن التعاون دائماً مكلف، فعندما تبذل شيئاً من أجل مصلحة الآخرين في مجتمعك فأنت بذلك تقف موقفاً مضاداً للفكر المادي، حتى في مجتمعنا البشري وحياتنا اليومية، فما الذي ستكسبه من وجهة النظر المادية بأن تخصص نصيباً من راتبك للفقراء والمساكين مثلاً. وما الذي ستجنيه من حمل هموم الناس والنصح لهم بما فيه نفعهم. وماذا ستكسب إن حاولت إنقاذ شخص من الغرق أو من السرقة أو القتل أو من هتك العرض، فهذا كله قد يعود عليك بالخسائر التي قد تصل إلى فقد حياتك وبدون عائد مادي يُذكر.
فالتعاون معضلة حقيقية أمام المادية ولذلك تسبب في معضلة كبيرة في نظرية التطور والتي بدورها تجسد الفكر المادي على مستوى الكائنات والأنظمة الحية. وقد احتدم النقاش في هذه المشكلة في ستينيات القرن الماضي إلى أن خرج التطوريون باختراعات جديدة يعالجون بها الموقف ويعطون تفسيرات مادية نفعية للصفات التعاونية،
فقالوا إن بعض الصفات التعاونية تعود على الفرد المتعاون بالمنافع بطريقة أو بأخرى (Mutualism). وما لا يمكن أن يعالج بهذه الطريقة وهو الإيثار المطلق (Altruism) يمكن أن يكون نفعه غير مباشر في حالة إذا كان يعود نفعه على الأقارب فقط، لأنهم يحملون الصفات نفسها التي يحملها هذا الفرد وسيحملونها إلى الأجيال القادمة، وهذا نفع للفرد الذي ضحى بنفسه (أو بمعنى أصح نفع للجينات التي دفعته لهذا التصرف) فيما يعرف بآلية انتخاب ذوي القربى Kin selection فكلما زادت درجة القرابة للأفراد المنتفعين بصفاتك التعاونية كان النفع الذي تقدمه لهم عائداً عليك بوجه أو بآخر، لأن نجاح هؤلاء الأشخاص في العيش سيؤدي إلى نقل جيناتك أو معظمها على الأقل إلى الأجيال القادمة، ويفترض أن هذا هو الذي يُحرك الكائنات الحية من خلف الغرائز (من وجهة النظر التطور).
وهناك أيضاً آلية التركيب المكاني Spatial structure والذي ينتج عن أسلوب النمو للكائنات الحية أو أسلوب العيش بشكل منعزل لسبب أو لآخر أو حواجز فرضتها البيئة. مما يضمن في النهاية أن الجميع متعاونون في هذا المجتمع المغلق، وبالتالي فتكاليف التعاون مقسمة على الجميع بالتساوي وليس هناك خسارة نسبية تقع على الفرد المتعاون دون غيره. وهذا كافٍ لضمان استمرار التعاون.
وهناك أيضاً آلية العقاب Punishment التي تتبعها الحشرات التي تبني مجتمعات تعاونية كبرى مثل النمل والنحل والدبابير وغيرها، فهذه المجتمعات بها مَن يقوم بدور العقاب لكل مَن يقصر في دوره الذي كلفه به المجتمع، ويتم عزله عن المجتمع.
وهناك آلية شبيهة بذلك وهي آلية الإكراه Coercion وهي تعني أن يتم الإكراه على السلوك التعاوني أو السلوك الذي يصب في مصلحة المجتمع وليس في مصلحة الفرد مثل الفيرمون Pheromone الذي تطلقه ملكة النحل لتثبيط مبايض النحل الشغالات، لكيلا تنتج بيضاً فيكون هناك أكثر من مصدر للبيض في الخلية فتفسد الخلية، ولن تجد بيوض الملكة مَن يرعاها.
وهناك آلية أخرى هي العوائد التناقصية Diminishing returns وهي محاولة لكبح جماح التنافس في تحصيل الفوائد والأرباح الذي يدفع إلى السلوك غير المتعاون أو السلوك الأناني الاستغلالي.
فمثلاً إذا كنت تشعر بالعطش الشديد، فأول كوب ماء سيروي عطشك بنسبة 50% وثاني كوب سيروي عطشك بنسبة 20% وثالث كوب قد لا يمكنك شربه كله. فهذا التشبع له دور في تقليل التنافس على الموارد. وبالتالي له دور في تقليل فرص الاستغلال، وله دور في وضع مكابح لآليات التطور التي تدفع الجميع لتحصيل أكبر قدر من الفوائد والأرباح مهما كان الثمن. فمثلاً الخفافيش المصاصة للدماء يتنافسون فيما بينهم على الوضع الأفضل لمص دماء الفريسة، لكن عندما يعودون آخر اليوم يكون منهم المُتخم من كثرة شرب الدماء ومنهم الجائع الخاوي البطن. فيتشاركون قدراً من الدماء فيما بينهم فبعد أن كانوا يتنافسون على هذه الدماء أصبحوا يهبونها بعضهم لبعض بسبب التشبع.
وهذا السلوك التعاوني يضمن لهم أن يجدوا ما يسد حاجتهم في أغلب الأيام، لأن الفرد الذي سيعطي غيره الدماء اليوم قد لا يجد في اليوم التالي ما يسد جوعه فيقترض من غيره الدماء وهكذا. فيكون التشبع هو السبب في بقاء هذا السلوك التعاوني. وهناك آليات أخرى حاول التطوريون تقديمها على مدار سنين ليتمكنوا من تفسير وجود الصفات التعاونية.
لكن لماذا احتاجت الصفات التعاونية إلى كل هذا الجهد؟ فنحن لو سألنا عن سبب وجود أي صفة في أي كائن حي، فالجواب الحاضر دائماً هو الطفرات والانتخاب الطبيعي. فما الذي جعل آليات التطور الأساسية غير قادرة على تفسير وجود الصفات التعاونية؟ ولماذا احتاجت إلى معاونة خارجية من مثل تلك الآليات الإضافية التي ذكرتها؟ وهل هذه الآليات الإضافية حلت الأزمة فعلاً أم لا؟
وهنا تظهر المفارقة لأن الانتخاب الطبيعي سيختار دائماً مَن سيتسبب في انهيار المجموعة وقلة كفاءتها بدلاً من أن يختار مَن يرفع مستوى الصلاحية في المجموعة مع مرور الزمن، لأن غير المتعاون عندما يتغلب على المتعاون سيخسر الصفات التعاونية التي يقوم عليها المجتمع في الأساس، مما يُضعف المجتمع لدرجة أنه قد ينقرض بالكلية بما في ذلك غير المتعاون أيضاً (وهذا يعرف بالانتحار التطوري Evolutionary suicide).
وكذلك الطفرات التي من المفترض أنها تجلب دائماً الصفات الجديدة إلى المجتمع سوف تتسبب في وقوع المواجهة بين المتعاون وغير المتعاون لا محالة. وبالتالي فآليات نظرية التطور الأساسية تقود إلى انعدام الصفات التعاونية ثم تدمير الحياة كلها بدلاً من أن تقود إلى وجود الحياة (ولذلك احتاجت إلى عمليات إنعاش بتلك الآليات الإضافية والتي لم تقدم شيئاً في الحقيقة كما سنرى لاحقاً) ومن هنا جاء المأزق ومن هنا فشلت كل محاولات استرحام المادية، وتم رصد ذلك نظرياً وتجريبياً.
فبالمفهوم النظري الرياضي يُعبر عن تلك الحقيقة بما يُعرف بمعضلة السجين (The prisoner’s dilemma) وفي هذه المعضلة ستظل الاستراتيجية الأنانية هي المفضلة دائماً بالرغم مما ستسببه من قلة الكفاءة العامة للمجموعة، ولذلك سميت معضلة. ومعضلة السجين عبارة عن نموذج رياضي لنتائج التقاء الاستراتيجيات المختلفة، وكيف ستكون محصلة ذلك، لكي يظهر بناء على الربح الناتج: ما هو الطريق الذي ستتطور الأمور باتجاهه دائماً؟ والمعضلة تتمثل بعرض تعرضه الشرطة على شخصين مشتبه بهما، ولا تملك الشرطة دليل إدانة ضدهما ويكون هذا العرض لكل شخص على حدة بأنه لو اعترف بما فعله الشخص الآخر فسوف يتم مكافأته بإطلاق سراحه ويعاقب زميله بثلاث سنوات. ولو حدث العكس فسوف يعاقب هو بثلاث سنوات ويطلق سراح زميله. ولو لم يعترف أحدهما فسوف يعاقب كل منهما بسنة سجن ولو اعترف كل منهما على الآخر فسوف يعاقب كلاهما بسنتي سجن. كما هو مبين في الجدول المرفق.
فالاعتراف على الآخر هنا هو الأنانية (الصف السفلي في الجدول)، والسكوت هو التعاون (الصف العلوي في الجدول)، فتبقى الأنانية مفضلة دائماً على التعاون لأنه لا يعرف ماذا سيفعله الآخر. فلو سكت فقد يعترف زميله ويطلق سراحه ويبوء هو بالثلاث السنوات، ولو تعاون زميله أيضاً فسوف يُحبس عاماً فهو مخير بين 3-1. أما لو كان أنانياً واعترف على زميله ابتداء فسوف يطلق سراحه، أو على أسوأ تقدير يحبس عامين فهو بين 2-0.
فالجميع متفقون على أن التعاون عرضة في كل لحظة وفي كل مكان للاستغلال من قبل غير المتعاونين. ومتفقون على أن هذا التفاعل بين المُستغل والمُتعاون نتيجته محسومة لمصلحة المُستغل. وأن الواقع يخالف هذا لأن الكائنات ما زالت موجودة وما زالت تعج بالمتعاونين.
وكل هذا يقر به جميع التطوريين ومَن يقرأ أي ورقة علمية في مجال التطور الاجتماعي Social evolution (ولتكن على سبيل المثال إحدى هذه الأوراق) :
West, S. A., Diggle, S. P., Buckling, A., Gardner, A., & Griffin, A. S.(2007b). The social lives of.microbes. ANNU. REV. ECOL.EVOL.S, 53-77.
West, S. A., Griffin, A. S., Gardner, A., & Diggle, S. P. (2006). Social evolution theory for.microorganisms. Nat. Rev. Microbiol, 4(8), 597-607.
Travisano, M., & Velicer, G. J. (2004). Strategies of microbial cheater control. Trends in.microbiology, 12(2), 72-78.
فسيجد أن كل هذا الذي ذكرته من المُسلمات التي لا يجادل فيها أحد من التطوريين، وليس مجرد قول عابر لأحدهم هنا أو هناك
لكن بالرغم من هذه المحاولات المستميتة لتقديم تفسير تطوري لوجود الصفات التعاونية بواسطة تلك الآليات الإضافية بعد أن عجزت الآليات الأساسية عن تقديم التفسير، إلا أن المشكلة لم تنتهِ. بل قد تكون بدأت للتو، لأن هذه الآليات قد تفسر ولادة التعاون من رحم المادية، لكنها ستعجز تماماً لاحقاً في جعل المادية ترحم وليدها أو تتركه ينتشر.
فهي كلها حلول جزئية تماماً كالمُسكن الذي يأخذه المريض لكيلا يشعر بألمه، لكن في الحقيقة المرض ما زال موجوداً، وسبب الألم ما زال مستمراً، ويوشك مفعول المُسكن أن يزول فتتجدد الآلام.
فكل هذه الآليات الجزئية لم تتعامل مع أصل المشكلة لأنه لا يمكن حلها أبداً بطريقة مادية (كما سأبين لاحقاً) وإنما جعلت الحلول من قبيل التركيب المكاني الذي سيحول دون المواجهة بين المتعاون وغير المتعاون، لكن هذا بالتأكيد لن يستمر طويلاً. فليس هناك أي آلية من هذه الآليات تقدم حلاً جوهرياً عاماً للمعضلة. وكما ذكرنا فالتعاون منتشر جداً بالفعل على أرض الواقع، بل إنه متداخل في كل صور الحياة لأن استخدام الموارد العامة بصورة منظمة تحافظ على المورد هو سلوك تعاوني، وكل موارد الطبيعة تعد موارد عامة مشتركة.
بل إن التعاون يعد منتجاً للموارد أيضاً وليس مستهلكاً رشيداً لها فحسب. فمعظم الكائنات الدقيقة تعتمد على موارد عبارة عن إفرازات ينتجها الفرد المتعاون لمصلحة المجموعة ككل وليس لمصلحته الشخصية فقط، وهذا له صور كثيرة منها امتصاصها للغذاء وهضمها له وحروبها ضد الفصائل الأخرى وتكاثرها وغير ذلك من أساسيات الحياة، فالتعاون هو المُنتج للموارد في حياة جزء كبير من الكائنات الحية، وهو المنظم لاستهلاكها في حياة الجزء الباقي، فلو لم ترحم المادية التعاون وتُبقِ عليه وتتصالح معه وتنحاز إليه، فلا موارد ولا حياة ولا وجود لأي شيء.
وهذا الانحياز لمصلحة التعاون في كل زمان ومكان يلزم منه وجود آلية عامة تغير مجرى الأمور، وهذه الآلية العامة لا وجود لها في آليات التطور الأساسية ولا في الإضافية أيضاً.
وإذا كان التجسيد الرياضي لمشكلة الصفات التعاونية مع نظرية التطور، هو معضلة السجين، فإن التجسيد الواقعي لها هو مأساة الموارد العامة المشتركة.
.