تحدثنا في المقال السابق عن نبذة من تاريخ العنفات في العصور السابقة، وعلى الرغم من أهميّة تلك العنفات في بعض العصور، إلّا أنها لم تكن بالأهميّة التي هي عليها في عصرنا الحديث، والسر في ذلك يرجع إلى استخدامها في توليد الطاقة الكهربيّة التي نحتاجها في جلّ التطبيقات حولنا، فالعنفة هي عنصر معنيّ باستخراج الطاقة من المائع، والتي يحويها المائع إمّا بصورة طبيعيّة كطاقة الرياح، أو يتم نقلها إليه من إحراق وقود أو غيره، كما في محطات توليد الطاقة باستخدام الوقود الأحفوري أو النووي. إنّ محطات الطاقة التي تَستخدم الوقود تنتج الغالبيّة العظمى من استهلاك العالم للكهرباء، وهي تستخدم نوعين من العنفات؛ العنفات الغازيّة، والعنفات البخاريّة، وهما موضوع حديثنا في هذا المقال.
يتم إنتاج بخار الماء ذي الضغط المرتفع إما باستخدام المشتقات البتروليّة كالفحم أو الوقود النووي، أو باستخدام الطاقة المتجددة. ففي الحالة الأولى يتم إحراق الوقود، وتعمل الحرارة الناتجة على تحويل الماء إلى بخار محمّص يعمل على إدارة العنفات، أو تُستخدم الحرارة الناتجة عن الانشطار الذريّ في حالة المحطات النوويّة. أما في حالة الطاقة المتجددة فإنّ إحدى الطرق تتلخص في استخدام مرايا تعكس أشعة الشمس وتُركزها في نقطة واحدة هي خزان ممتلئ بالماء، فيتبخر ما بداخله وينتقل إلى العنفات ليديرها.
أما الغاز المستخدم في إدارة العنفات فهو إما هواء يتم تمريره على غرفة احتراقٍ لإكسابه طاقة، فيكون بوصف آخر: ناتج الاحتراق، كما في المحطات الغازيّة ومحطات الدورة المركبة، أما في حالة المحطات النووية فقد يكون المائع الوسيط (Working fluid) عبارة عن غاز (الهيليوم على سبيل المثال).
أنواع العنفات:
يتم تقسيم العنفات فى الأساس بناءً على أحد أمرين؛ الأول بناءً على اتجاه سريان المائع بالنسبة للعضو الدوّار أو محور العنفة، والثاني بناءً على الطريقة التي يتم من خلالها الحصول على معدل تغيّر كميّة الحركة الزاويّة للمائع. فاتجاه سريان المائع إما أن يكون موازياً لمحور العنفة، ويسمى سرياناً محورياً، أو عمودياً عليه فيسمى سرياناً قطريّاً (أو شعاعيّاً)، أو يكون السريان في اتجاه مختلط يجمع بين الإثنين.
وبناءً على الضابط الثاني يتم تقسيم العنفات إلى: عنفة دفع أو عنفة رد فعل، أو عنفة تجمع بين الآليّتين معاً. كما يتم تقسيم العنفات أيضا بناءاً على المائع المار من خلالها: عنفات رياح، عنفات مائيّة، عنفات غازيّة، أو عنفات بخاريّة.
عنفة الدفع:
وهي أبسط أنواع العنفات، تكون الرّيَش فيها مقعّرة الشكل من الداخل، يتم توجيه المائع (ويكون مائعاً ذا ضغط مرتفع عادةً) عليها من خلال فُوّهات (والفوَّهة هي جهاز يزيد من طاقة حركة المائع والمتمثلة بزيادة سرعته على حساب طاقة الانسياب الخاصة به، والمتمثلّة في نقصان ضغطه السكوني) تعمل على زيادة سرعته ليصطدم بريَش العنفة، ويرتد عنها، فيعاني تغيّراً فى كميّة حركته، ينتج عنه قوّة دفعيّة تعمل على إدارة ريَش العنفة، ولكن الاصطدام المباشرالعموديَّ للمائع ذي السرعة العالية بريشة العنفة من شأنه أن يُتلفها، لذا يتم توجيه المائع بحيث يتبع المنحنى الداخلي لريشة العنفة قبل أن يرتد عنها، مما يقلل من القوّة الدفعيّة الواقعة على الريشة.
عنفة رد الفعل:
تُنسب أوّل عنفة معروفة من هذا النوع إلى هيرون السكندري (Heron of Alexandria) في القرن الأول للميلاد، وشرح المهندس السويديّ جوستاف دي لافال (Gustaf de Laval) في عام 1883 آليّة عمل عنفة رد فعل مبنيّة على مبدأ هيرون. التصوّر البسيط للعنفة يمكن تمثيله بأنبوب على شكل حرف (Z) قائم الزوايا، يقع فى المستوى الأفقي، وهذا الأنبوب قابل للدوران حول المحور الرأسي المارّ بمنتصفه، فعند دخول بخار من منتصف الأنبوب فإنه يَخرج من طرفيه بنسب متساوية، فإذا وضعنا فوّهتين عند طرفيه فإن البخار سيتمدد داخلهما أثناء خروجه، وستزداد سرعته، أي ستزداد كميّة حركته. معدلُ ازدياد كميّة حركة البخار يَنتج عن القوة التي تؤثر بها الفوّهة على البخار في اتجاه سريانه، وتنشأ قوة رد فعلٍ عن البخار على الفوّهة في الاتجاه المعاكس، تماماً كما في خرطوم إطفاء الحريق، فتعمل على دفع الفوّهة للخلف، ولكن الفوّهتين في اتجاهين متضادّين، فسيدور الأنبوب حول المحور الرأسي المار بمنتصفه. هذا الأنبوب يمثل نموذج عنفة ردِّ الفعل الذي شرحه دي لافال، وكانت إنجازاً وقتَها، لأنها بيّنت إمكانيّة الحصول على سرعات دورانيّة عالية باستخدام البخار، أمّا الآن فلا يوجد استخدام لها.
لكن مبدأ رد الفعل في العنفات طُوّر بعدها، ويستخدم الآن في العنفات الحديثة، حيث يتمدد المائع أثناء مروره من خلال ريَش العنفة وداخل مسار محكَمٍ، ممّا يعطي قوّة رد فعل على ريَش العنفة، كما في نظام الريش الذي ابتكره المهندس الآيرلندي تشارلز بارسونز (Charles Parsons) في عام 1885، وعُرف هذا النظام باسمه، أو بأنه نظام رد فعل بنسبة 50 في المائة، وفي هذا النظام يحدث 50 بالمائة من تمدد المائع خلال الريش الثابتة، والنصف الآخر خلال الريش الدوّارة، فعنفات رد الفعل الحديثة تستخدم مزيجاً من مبدأ الدفع الخالص مع مبدأ رد الفعل الخالص.
تتكون توربينات رد الفعل الحديثة من صفّ من الشفرات الثابتة، يليه صف قابل للدوران به نفس عدد الشفرات. هذان الصفان معاً يسميّان مرحلة (Stage). الصفوف الثابتة تعمل كفوّهات تزيد سرعة المائع وتخفِّض ضغطه في المقابل، ويؤثر المائع على الصفوف الدوّارة -المتصلة على عمود واحد- بمركبتي الدفع ورد الفعل، فتعمل على دورانها.
نتيجةَ مبدأ رد الفعل تدور تلك العنفات بسرعات كبيرة، وهذا يسبب إجهاداً كبيراً على الشفرات نتيجةً للعجلة المركزيّة الكبيرة الناشئة، وهذا يحد من كميّة الطاقة الممكنِ استخراجها من المائع خلال صف واحد من الشفرات، لذا تكون معظم التوربينات متعددة المراحل.
العنفات الغازية والبخاريّة:
العنفات التي تُدار بالغاز تكون في الأغلب عنفاتِ رد فعل، بينما العنفات التي تعمل بالبخار تكون مزيجاً بين الإثنين، ففي التطبيقات الصغيرة تُستخدم عنفات دفع، بينما في المحطات البخاريّة الكبيرة تستخدم عنفات الدفع في مرحلة أو أكثر من عنفات الضغط العالي، وباقي المراحل قد تتكون من عنفات رد فعل.
يرجع الفارق بين العنفات التي تدار بالبخار والتي تدار بالغاز إلى فرق الضغط الواقع بين مدخل ومخرج العنفة في كل من الإثنين، فالعنفات البخاريّة يتمدد البخار داخلها حتى يصل إلي ضغط المكثف، والمكثف جهاز يعمل على تكثيف البخار إلى ماء بإفقاده حرارةً عن طريق التبادل الحراري مع الوسط المحيط والمحكوم بحرارة مياه التبريد المتاحة والذي يكون في حدود 0.035 بار في بعض التطبيقات، علماً أنّ الضغط الجوي عند سطح البحر يكون 1 بار تقريباً، بينما يدخل البخار إلى العنفة بضغط يقارب 170 بار، فيعطي نسبة ضغط بين الخرج والدخل تقارب 4500 إلي 1، وحتى في ضغوط الإمداد الأصغر والتي تكون في حدود 40 بار، تكون نسبة الضغط في حدود 1000 إلي 1، بينما في العنفات الغازيّة تكون نسبة الضغط في حدود 10 إلي 1.
هذا الفارق يبيّن استخدام العنفات البخاريّة لمراحل من عنفات الدفع، والتي تعمل على خفض الضغط بشكل سريع، مما يمنع التسريب الذي يمكن أن يحدث إذا استخدُمت عنفات رد فعل بالكامل نتيجة فرق الضغط الكبير.
كان هذا شرحاً مبسطاً لكيفيّة عمل العنفات البخاريّة والغازيّة. سنتطرق في المقال الثاني -بإذن الله- للعنفات التي تتحرك بتأثير الرياح.
المراجع
T. D. Eastop and A. McConkey “Applied Thermodynamics for Engineering Technologists,” 5th Edition, Addison-Wesley Longman, Ltd., UK