بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على أشرف خلق الله مُحمدٌ نبيُّ الله وعلى آله وصحبه ومَن والاه، ثم، أما بعد:
إن ما هو معقولٌ عند أحدنا قد لا يكون معقولٌ عند غيرنا، فالعقول تتفاوت في الأدراك، إلا أن هناك من المعقولات ما لا يجوز أن يختلف عاقلان عليها وقد سُميت بالمبادئ العقلية.
المبادئ العقلية: وهي المقتضى للغريزة العقلية فلا يمكن الاستدلال عليها فهي الأساس لكل استدلال ويكفي لتصديقها صحة تصورها لكونها مطابقة للفطرة، وقد عرفها ابن سينا على أنها “قضايا ومقدمات تحدث في الإنسان من جهة قوته العقلية، من غير سبب يوجب التصديق بها إلا ذواتها”(1).
وقد سميت أيضا بالمبادئ الفطرية كونها مفطورة في النفس منذ خلقها، أو الضروريات كون النفس تضطر للتسليم بها، أو البديهيات “مأخوذة من البده والبداهة، وهو الذي لا يتوقف حصوله على نظر وكسب”(2).
وقال الساوي عنها: “هي القضايا التي يصدق بها العقل الصحيح لذاته وغريزته، ولا لسبب من الأسباب الخارجية عنه، من تعلم أو تخلق بخلق أوجب السلامة والنظام، ولا تدعو إليها قوة الوهم أو قوة أخرى من النفس، ولا يتوقف العقل في التصديق بها إلا على حصول التصوير لأجزائها المفردة، فإذا تصور معاني أجزائها سارع إلى التصديق بها من غير أن يشعر بخلوة وقتا ما عن التصديق بها”(3).
وتعود هذه لعدة مبادئ منها الثالث المرفوع أي أن النقيضين لا يمكن أن يرتفعا، والوسط الممنوع أي أنه لا يمكن أن يجتمعا. ومن تلك المبادئ أيضا مبدأ السببية الذي يقوم على أن لكل حادث سبب، إذ لا يمكن لوجود الحادث أن يكون ذاتيا، فوجوده سبقه العدم ولزم لوجوده سبب.
يقول لبتنز: “براهيننا مؤسسة على مبدأين عظيمين، مبدأ عدم التناقض الذي بفضله نحكم ببطلان كل ما هو متناقض، ونحكم بصدق كل ما يعارض أو يناقض ما هو باطل، ومبدأ العلة الكافية الذي به لا نعد أي واقعة قائمة في الواقع ما لم يكن لها علة كافية تبين لماذا كانت الواقعة أو القضية على ما هي عليه ولم تكن على نحو آخر، على الرغم من أن هذه العلل في معظم الحالات تظل خافية علينا”(4).
وتحمل هذه الأوليات صفة الضرورية لكونها حجة على صحة كل استدلال نظري، فالمعرفة النظرية لا يمكن أن تستند إلى مقدمات نظرية إلى غير نهاية، فالمقدمات النظرية غير معلومة الصدق لذاتها فتحتاج إلى مقدمات ضرورية معلومة الصدق لذاتها كي يتم البرهان عليها وإلا لزم الدور الممتنع، فمن خصائص المعرفة النظرية الاحتياج إلى دليل، وإن لم يكن ذاك الدليل المعلوم الصدق لذاته لزم عدم اليقين مطلقا في المعرفة.
وفي تقرير انتهاء الاستدلال إلى مقدمات ضرورية، يقول ابن تيمية رحمه الله: “البرهان الذي ينال بالنظر فيه العلم لا بد أن ينتهي إلى مقدمات ضرورية فطرية. فإن كل علم ليس بضروري لا بد أن ينتهي إلى علم ضروري، إذ المقدمات النظرية لو ثبتت بمقدمات نظرية لزم الدور القبلي أو التسلسل في المؤثرات في محل له ابتداء، وكلاهما باطل بالضرورة واتفاق العقلاء، فلا بد من علوم بديهية أولية يبتدئها الله في قلبه، وغاية البرهان أن ينتهي إليها”(5).
وفي بيان مكانة الأوليات من الاستدلال يقول ابن حزم رحمه الله: “ما كان مدركا بأول العقل أو الحواس فليس عليه استدلال أصلا، بل من قبل هذه الجهات يبتدئ كل أحد بالاستدلال، وبالرد إلى ذلك فيصح استدلاله أو يبطل”(6).
فالإنسان لا يمكنه التشكيك في تلك المقدمات فهي مقتضى الفطرة ومقتضى الغريزة العقلية، يقول ابن تيمية: “فإذا لم يمكن الإنسان أن يدفع هذه القضايا عن نفسه، ولا يقاوم نفسه في دفعها تبين انها ضرورية، وأن الدافعين لها يريدون تغيير فطرة الله التي فطر الناس عليها”(7).
والإيمان بالمبادئ العقلية يُعد أمراً ضرورياً وليس اختيارياً، فليس بالإمكان التأسيس لمنهجية معرفيةٍ من دونها، فكل معرفة مبينة على التشكيك بالمبادئ العقلية تكون قابلة للتشكيك بها، يقول ابن تيمية في الشبهات التي قد تورد عليها: “والشبهات القادحة في تلك العلوم لا يُمكن الجواب عنها بالبرهان، لأن غاية البرهان أن ينتهي إليها، فإذا وقع الشك فيها انقطع طريق النظر والبحث”(8)..
فالحاصلُ انها كامنة بالنفس، لا يمكن تصور حصول غيرها، “لأنها مُتقضى غريزته العقلية التي هي مقتضى الفطرة التي فطره الله عليها”(9)، “وكان ابن تيمية كثيراً ما يتمثل في هذا البيت”(10):
وليس يصحُّ في الأذهانِ شيءٌ إذا احتاجَ النهارُ الى دليل
وأن العلمَ بالله تعالى لا يقل ضروريةً عن هذه المبادئ، فالأيمان بالله تعالى فطريٌ ضروري لا يقبل الشك أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ سورة إبراهيم
وقد ذكر ابن تيمية كلاماً بهذا المعنى فقال: “أصلُ العلمِ الإلهي فطري، وأنه أشد العلم رسوخاً في النفوس، من مبدأ العلم الرياضي، كقولنا إن الجسم لا يكون في مكانين، لأن هذه المعارف أسماءٌ قد تُعرِضُ عنها أكثر الفِطر، وأما العلمُ الإلهي فلا يتصور أن تُعرض عنها فطرة”(11).
ولكن “الواردات والشبه والإشكالات على المعرفة الإلهية والتي قد تُصرف المرء عن نداءات فطرته، أو تُضعِفُها – أكثر مما يرد على تلك العلوم، وهو ما يُشكل ذلك الشعور بأسبقية المعارف على المعرفة بالله تعالى – وإلا لو صفت النفوس وانزاحت تلك الصوارف، لكان علمها بالله أشدُّ وأرسخ من تلك”(12).
فإن عقول الأصحاء تتفق في خلق الله لها، فخُلِقَ ليُدِلَّ ويهدي ويتفكَّر ويُريَ صاحبه الطريق، والمؤثرات تُغطي بصيرة العقل فلا تستطيع رؤية المسارات كما هيَ، ولا التمييز بينها”(13).
فلو حَكَم الشخصُ بالشكِّ على تلك الأوليات للَزِمَهُ عدم اليقين مطلقاً في أي معرفة نظرية حتى أنه يلزمه من ذلك الشك في حكمه.
أنقلُ من مقال الدكتور أحمد إبراهيم لبيان تخبُّط المُتشكك في حكمه بالشك على الأوليات (14):
يقول: وما يدرينا أن مسلمات المنطق صحيحة؟
فيقول عمرو: عذرا … ما هو معني أن تشكك في أن الشيء لا يمكن أن يكون نقيضه؟
يقول زيد: معني ذلك أن الشيء يمكن أن يكون ولا يكون على صفة ما في عالم ما أو كون آخر أو.. الخ
يقول عمرو: لم أقصد ذلك بسؤالي ولكن قصدت أنك احتكمت لنفس القاعدة التي تحاول نفيها وأنت لا تدري يقول زيد: كيف؟
يقول عمرو: لأنك عندما تحاول التشكيك في استحالة اجتماع النقيضين تنطلق من اعتقاد أن هناك تناقض بين الاعتقاد بأن النقيضان يجتمعان وبين اعتقاد أنهما لا يجتمعان وأنك إذا اعتقدت بأحد الاعتقادين كنت غير معتقد بنقيضه لأن النقيضان لا يجتمعان.
الحاصل أنك لا يمكن أن تستمر في التشكيك إلي ما لا نهاية كما يبدو للوهلة الأولى وإنما ستجد نفسك في النهاية تحتكم إلي نفس المسلمات التي تريد نفي صحتها وذلك لأن هذه المسلمات هي المكون المعرفي نفسه وهي الحقيقة نفسها التي نحاول اكتشافها بعقولنا فهي أمر متعلق بالوجود ذاته مستقلة عن عقولنا ولذلك نصطدم بصلابتها عندما نحاول التلاعب بها لأنه بدونها لا وجود ولا معنى ولا معرفة ولا حقيقة فهذه المسلمات ليست بعض المعرفة وإنما هي المعرفة نفسها وهي الحقيقة نفسها فيكون اللاأدري مخير بين أن يتوقف عقله بالكلية عن وظيفته التي هي المعرفة أو يسلم بوجود حقيقة مستقلة عنه زرعت أصولها ومفاتيحها في عقله على شكل مسلمات فلا يستطيع العقل السير خطوة واحدة إلا إذا وجد الطريق الذي يمكن السير فيه حتي لو كانت تلك الخطوة نحو الشك فلا سير بدون طريق. انتهى
ولهذا اختار عددٌ من العلماء أن السفسطائية لا يُستخدم معهم أسلوب الاستدلال والمناظرة، لأن المناظرة إنما تقوم على التسليم بالأمور الضرورية وهم قد أنكروها.
إن لهذه الأوليات خصائص لا تنفك عنها، ومنها:
1) استحالة القدح فيها بالنظريات لكون النظريات مستندة الى الضروريات، فالنظريات فرع عن الأصلي فقدح الأصلِ بالفرع ممنوع فهو قدحٌ في نفسه، يقول ابن تيمية: ” أما دفع الضروريات بالنظريات فغير ممكن، لأن النظريات غايتها ان يُحتج عليها بمقدمات ضرورية، فالضروريات أصلُ النظريات، فلو قُدِحَ في الضروريات بالنظريات لكان ذلك قدحاً في أصل النظريات، فتبطل الضروريات والنظريات”(15).
2) ومن مقتضيات ضروريتها صحتها مطلقاً، فلا يصح في الضروريات ما هو باطل. يقول ابن تيمية: ” إذا جوّزنا أن يكون في البديهيات ما هو باطل لا يمكن العلم بأن تلك البديهية المميزة بين ما هو صحيح من البديهيات الأولى وما هو مقبول التمييز، حتى يُعلم أنها من القسم الصحيح، وذلك لا يعلم إلا ببديهية أخرى مبينة مميزة، وتلك لا يُعلم أنها من البديهيات الصحيحة الا بأخرى، فيفضى الى التسلسل الباطل، وينتهي الأمر الى بديهية مشتبهة لا يحصل بها التمييز، والنظريات موقوفةٌ على البديهيات، فإذا جاز أن تكون البديهيات مشتبهة، فيها حقٌ وفيها باطل كانت النظريات المبنية عليها أولى بذلك، وحينئذٍ فلا يبقى علمٌ يُعرفُ به حقٌ وباطل، وهذا جامع كل سفسطة”(16).
ويقول أرسطو: ” فإن المقدمات المعروفة الطبع يُصدِّقُ بها بذاتها، وليس يمكن أحد ان يتصور انها على غير ما هي عليه، ولا يمكن أن يعاندها بنطقه الداخل بل إن كان فبنطقه الخارج فقط “(17).
وقد جعل بعضُ المتكلمين من مقتضيات كون الشيء ضرورياً ألا تقع فيه المخالفة، فكل ما وقعت فيه المخالفة فهو ليس ضرورياً عنده كالقاضي عبد الجبار والسنوسي والرازي في كثير من المسائل العقدية(18)، يقول ابن تيمية معترضاً: ” قول القائل: ان الضروريات يجب اشتراك العقلاء فيها، خطأ، بل الضروريات كالنظريات، تارةً يشتركون فيها، وتارةً يُختصُ بها من جُعِلَ له قوةٌ على ادراكها”(19).
يقول ابن القيم: ” الاشتراك في المعلومات الضروريات غير واجب، ولا واقع، والواقع خلافه”(20).
وغيركم ممن شاركهم الرأي كالتفتازاني وابن رشد.
وقولهم غلط، -أعني من يقول بعدم جواز الاختلاف بالضروريات-، يدلُّ على غلطه أمور:
الأمر الأول: أن هذه الدعوى تقتضي ألا يوجد امر ضروري البتة، لأن السفسطائية خالفوا في كل ضروري، وقد ألزم الآمدي المتكلمين في كلامه: “ولقائلٍ أن يقول: الاختلاف لا يدل على انه غير ضروري، وإلا كان خلاف السفسطائية في حصول العلم بالضروريات مانعاً من كونها ضرورياً”(21).
الامر الثاني: “أصل الإشكال في عدم تعريفهم بينما يَرجِعُ الى الشيءِ وبينما يقوم بالنفس عنه، فإن ما يقوم بالنفس عن الشيء لا يلزِمُ أن يكونَ متحققاً في الشيء، وإلا لامتنع الخطأ، فإن الخطأ إنما هو عدم موافقة ما يقومُ في القلب عما هو في الخارج، ومما يوضح هذا أن أمور الأدراكِ ليست أوصافاً قائمة بالأشياء وانما هي أوصافٌ قائمة بالأنفس عن الأشياء، فالعلم والجهل والظهور والخفاء والعلمُ بالضرورة وغير ذلك ليست أوصافاً قائمة بالأشياء بحيث تكون ملازمةً لها لا تفارقها، حتى يقال إن الناس لا بد ان يشتركوا في ادراكها، وانما هي أوصافٌ قائمة بالذات المدرِكة، وما يقوم بأنفس الناس ليس له ضابطٌ يضبطه”(22).
الخاصية الثانية والأهم هي الكليِّة، أي انها تشمل جميع الموجودات فلا تختص بموجودٍ دون موجود.
“فلا يُصح أن يُعتمد في بيان صدقها ما يُدرك بالحواس، فالحس لا يدرك إلا ما تعلق به ادراكه المباشر، وما يتعلق به إدراك الحس المباشر لا يمكن ان يكون عاماً لكل الأشياء، فلا بد ان يُرجع اثبات صدق هذه الأمور الى العقل فإنه لا طريق غيره، ولهذا كان إدراك الأمور الفطرية من خواص العقل فقط”(23).
يقول الغزالي: ” العلوم الكليلة الضرورية من خواص العقل، إذ يحكم الانسان بأن الشخص الواحد لا يُتصور أن يكون في مكانين في حالة واحدة، وهذا حكم منهُ على كل شخص، ومعلومٌ أنه لم يدرك بالحس إلا بعض الأشخاص، فحكمه على جميع الأشخاص زائدٌ على ما أدركه الحس”(24).
الرد على جون لوك في إنكاره المبادئ الفطرية:
إن القول في فطرية الأوليات يتضمن أمرين:
أولهما: أن العقلَ مصدر تلك المبادئ.
ثانيهما: دليل صدقها مطابقتها للغريزة العقلية.
وقد أنكر المبادئ الفطرية أصحاب الاتجاه الحسي( التجريبي ) في المعرفة، وهم: كلُّ مَنْ قسر المعرفة على الإدراك الحسي فقط، فكل فكرةٍ لا تُرد الى أصل حسي يُحكم عليها بالبطلان.
فالفكرة القائلة بأن الحس هو مصدر المعرفة ومعيارها النهائي، هي النتيجة التي تؤدي اليها أبحاثهم أخر الأمر، فجون لوك: “إن الذهن يبدأ وكأنه صفحة بيضاء، والتجربة هي التي تسطر هذه الصفحة ما يُكتب فيها”(25).
وقد وأنكر الحسِّيون اعتماداً على اصلهم هذا المبادئ الفطرية، وكل المغيبات، فأصلهم هو أن الحس هو المصدر الوحيد للمعرفة.
وفي بيان إنكار المبادئ الفطرية يقول جون لوك: “يجزم بعض الناس بأن في الذهن مبادئ فطرية معينة، وعدداً من المفاهيم والحروف قد طبعت -إن صح التعبير- على عقل الإنسان منذُ أن وُجِد، وجاء بها معه الى العالم، ويكفي للتدليل على بطلان هذا الزعم بأن يُبيَّن بأن الناس يستطيعون باستخدام ملكاتهم الطبيعية فقط أن يَحصلوا على المعرفة التي بحوزتهم دون الالتجاء الى الانطباعات الفطرية وأن يتوصلوا الى اليقين بدون مثل هذه المفاهيم والمبادئ”(26).
والدليلين اللذَين استند جون لوك عليهما في نفي المبادئ الفطرية، هما:
الدليل الأول: أن إثبات الأفكار الفطرية مخالف للواقع، فلو كانت موجودة بالعقل قبل الحس لكانت موجودة عند الأطفال من أول ولادتهم، ولكن الحالة ليست كذلك، ولكانت موجودة عند البُله والقبائل المتوحشة، ولكنهم لا يعلمون شيئاً فكيف تكون فطرية؟! فهي غير موجودةٍ أصلاً(27)
وضعفُ الدليل يدل عليه وجهان:
الوجه الأول: ” أن من أثبت هذه المبادئ لم يثبتها موجودةً بالفعل في العقل البشري، بمعنى أن الطفل يعلم بها من اول ولادته مثلاً، وإنما من جهة أن العقل لا بد أن يصدق بها من غير بحثٍ عن مستندٍ لها، فوجودها بالعقل وجودها بالقوة، فهي كامنة في العقل وتتحقق بالفعل إذا استثارها الحس، ولدينا الملكة التي تستلزم الأخذ بالمبادئ الفطرية اذا احتكت حواسها بالأشياء”(28).
وفي هذا يقول الغزالي: “قولهم إن تلك الأوائل كيف كانت موجودةٌ فينا ولا نشعر بها، أو كيف حصلت بعد أن لم تكن من غير اكتساب ومتى حصلت؟، فنقول: تلك العلوم غير حاصلةٍ بالفعل فينا في كل حال، ولكن اذا تمت غريزة العقل، فتحصل العلوم بالقوةُ لا بالفعلِ، ومعناه أن عندنا قوة تدرك الكليات المفردات بإعانة من الحس الظاهر والباطن”(29).
وبطلان القول بأن فطرية هذه المبادئ يستلزم تحققها للإنسان بالفعل منذُ الولادة قوله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ سورة النحل
ولا تعارض بينها وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: كلُّ مولودٍ يولدُ على الفطرة(30)، فالمقصودُ أن الفطرة تقتضي التوحيد مع انتفاء الموانع.
ويقول الساوي في حل هذا الإشكال: “هذه الأوليات هل هي حاصلة لنا منذ أن وُجِدنا، أو حدثت بعد أن لم تكن فينا؟ فإن كانت حاصلةً فينا من مبدأ نشوئنا ونحن لا نشعر بها فهو عجيب.. وإن حدثت بعدما لم تكن فحدوثها بطريق البرهان أو بدونه. فإن كانت حدثت من غير برهان أوهمت المُحال.. وإن حدثت بطريق البرهان لَزُمَ التسلسل والدور وهما محالان.
والطريق الى حل هذا العويص هو أنها ليست حاصلة منذ خلقنا بالفعل بل بالقوة، وليس كل علم تصديقٍ حصل بعد ما لم يكن فحصوله بالبرهان، بل ما اذ تُصِوِرَت مفرداته وروعية النسبة بينهما بالإيجاب أو السلب توقف الذهن عن الجزم فيها، والأوليات ليست من هذا القبيل، بل الذهن إذا تصور مفرداتها لم يتوقف في الحكم بالنسبة الواجبة بينها على شيء آخر”(31).
فأما الوجه الثاني: يقول كوزان: “إن الطريقة التي اتبعها في الاستشهاد ليست قويمة، ولا تبعث الثقة واليقين، لأن من المتعذر أن نحصل على معلومات دقيقة عن المتوحشين والأطفال تتيح لنا أن نبني أحكامنا عليها، هذا فضلاً عن أن هؤلاء المتوحشين والأطفال الذين يحتج بهم لوك في مقدورهم أن يعرفوا القضايا التي ضربها مثلاً، على شرط أن نسوقها لهم في شكل يلائم عقليتهم”(32).
أما دليله الثاني: هو أنه لو كان ثبوت المبادئ في الغريزة صحيحا لما كان هناك حاجة للبحث عن الحقيقة بالملاحظة والاختبار والتجربة أي أن تلك المبادئ لو كانت موجودة في العقل البشري فلماذا لا تتحقق المعرفة للإنسان بدون الحواس(33).
“وضعف هذا الدليل ظاهر أكثر، فهو يظهر عدم فهم لوك بحقيقة القول بفطرية المبادئ، فمن أثبتها لم ينكر أهمية الحس في تحققها في الخارج وإثارتها في النفس، فابتداء العلم بالمعارف الفطرية لا بد فيه من الحس ومنشأ التصديق بها العقل”(34).
فالحاصل أن المبادئ غير مستغنية عن الحس، والقول بفطريتها لا يلزم منه عدم حصول خلل في فهمها عند بعض الناس لشبهة عارضة، ولا يلزم تحققها قبل الولادة، بل إن فطريتها هي حصول قوة في النفس تقتضي التسليم بها، وهذا ما لم يفهمه المعترضون.
موقف الحسيين من فطرية المبادئ الأولية:
إن الحسيين ينكرون كون العقل هو مصدر تلك المبادئ وينكرون دليل صدقها الذي هو مطابقتها للغريزة العقلية، فهم ينفون أصلاً ان العقل هو مصدر الضرورية والكلية للمبادئ الأولية، فالمذهب الحسي يقول بكون الحس أداة للمعرفة، بالتالي فالعقل لا يختص بشيءٍ من المعارف التي أصلها ليس حسياً، فالخبرة الحسية هي مستند صفة الضرورة لتلك المبادئ.
فأما ما يتعلق بمصدر المبادئ عند الحسيين فكل ما في العقل من أفكار ليست سوى نتيجةٍ من انطباعات حسية، فالغريزة العقلية عندهم منفعلة لا فاعلة أو على حسب تعبير هيوم “على ان تشبيهنا العقل بالمسرح لا ينبغي بان يضللنا، إذ ليس العقلُ الا الإدراكات المتوالية، دون أن يكون لهذه الإدراكات مكان معين لظهورها”(35) فالحواس هي المصدر الوحيد للمعرفة والعقل هي المسرح التي تتعاقب عليه الإدراكات.
ودليلهم على عدم امكان استقلال العقل بفكرة ليست في أصلها حسية بدليلين:
الدليل الأول: أن بتحليلنا للمعارف يدلنا على ان جميعها ترجع الى خبرات حسية، والثاني أن من حُرِمَ قوة حسية حُرِم ما تقتضيه من معرفة.
وفي بيان موقفنا نقول:
فأما في الدليل الأول فقالوا: ” إذا حللنا أفكارنا وجدنا دائماً أنها تنحل الى مجموعة من الأفكار البسيطة، كل منها صورة لانطباع جاءنا من الخبرة حسية”(36).
ونقول إن استدلالهم هو استدلالٌ بمحل النزاع، فنعلم أنها – أي المبادئ – تختص بخاصيتين وهما الكليّة والضرورة كما ذكرنا، أما التجربة الحسية “فإنها لا تعطي أبداً لأحكامها كليّة دقيقة حقيقيّة، بل فقط كليّة مفترضة ونسبيّة بالاستقراء، لا معنى لها غير هذا.. وتبعاً لذلك فإن الحكم المتصور بأنه ذو كليّة دقيقة، أي بحيث أنه لا يقبل ورود أي استثناء عليه لا يُشتق من التجربة، بل هو صادق صدقاً قبلياً مطلقاً، فالضرورة والكلية الدقيقة هما العلامتان الأكيدتان على معرفة قبلية، وهما مرتبطتان كلتاهما بالأخرى ارتباطاً لا انفصام لهم.
ويمكننا لإثبات حقيقة المبادئ في معرفتنا أن نبين أنها لا غنى عنها لكي تكون التجربة نفسها ممكنة فأنى للتجربة أن تستمد يقينها لو كانت كل القواعد التي وفقا لها تسير التجربة ليست أبدا تجريبية وتبعاً لذلك ممكنة”(37)
ويقول مسكويه: “فالعقلُ له فعلٌ أخر ليس مأخوذا عن الحس، وذلك لأن له الأوائل الذي يحكم به الحس وغيره ليست مأخوذة من شيء غير العقل نفسه، فلو كانت مأخوذة من شيء اخر لم تكن أوائل”(38).
ولكن الحسيون يناقضون هذا الاصل فالعقل ليس مصدراً للمبادئ فقد ذهب ستيوارت ميل أن المبادئ تحققت نتيجة التكرار(39) وذهب كونياك أن العقل قوة ناشئة عن الإحساس واننا نسينا كيف تكونت لذلك اعتقدنا انها فطرية(40)
“ولكن ذلك – أي نفي الأساس العقلي للمعرفة – أن تكون المعرفة احتمالية لا تدل على اليقين، إذ لا يمكن ان تقوم المعرفة على أساس تجريبي محض، فالتجربة تدل على الظواهر الحسية وتتابعها، دون أن تدل على علاقة ضرورية أو كليّة بينها، فهي لذلك لا يمكن ان تدل على حكم كليّ او ضروري، واذا لم يكن كذلك لم تكن يقينية، فهي احتمالية قابلة للشك فيها بما أنها تتخلف في شيء من افرادها”(41).
وهذا ما أكده هيوم بأن الوهم بضرورة مبدأ السببية وكليّته هو أنها مجرد عادة ناتجة عن تكرار التجربة لا أنها عقلية(42).
فهم يعترفون بهذا الإلزام ويقّرون بكون جميع المعارف احتمالية، حتى زعم ستيوارت ميل أن تصور نقائض المبادئ العقلية ممكن.(43)
وهذا ما ذهب اليه السفسطائية في كون الحس مختص وحده بالمعرفة.
وأختم الدليل بقول الدكتور سامي عامري”ولا سبيل لإثبات أن المعرفة هي أصل كل تجربة,لأن القول: إن التجربة ضمانة صدق كل دعوى ليس قولا تجريبيا, إنما هو مبدأ عقلي أولي يقوم عليه المذهب التجريبي إيمانا ولا يثبته, ولا يمكن إثبات التجربة من التجربة, فذاك الدور, أن يتوقف إثبات الشيء على نفسه ولا يمكن للتجربة نفسها دون مبادئ عقلية قائمة بالفعل أو بالقوة أن تنتج معرفة.
كما أن معارفنا العقلية ما لا يمكن أن ينتج عن تجربة, كامتناع اجتماع النقيضين, فإن التجربة مهما توسعت لا يمكن أن تثبت هذا المبدأ الكلي”(44).
وأما الدليل الثاني فقالوا: أن الحواس هي المصدر الوحيد للمعرفة، وأن من حُرِمَ جميع الحواس فلا شكَّ لا يمكنهُ أن يعرِفَ شيئاً، فَعُلِمَ أن جميع الأفكار متوقفة على القوى الحسية، أي انها هي المصدر الوحيد للمعرفة.
فنقول أن اشتراط سلامة الحواس هنا فلأن الأوليٍّات أحكام أولية وكل حكم كليّ فإنه لا يمكن تحققه دون تصور جزئياته وقد بيننا ذلك سابقاً في خلال البحث.
ونزيد على لك قول لايبنتس:”إن الحواس وإن كانت ضرورية لكل معارفنا الحاضرة, إلا أنها ليست كافية لتزويدنا بكل المعارف, لأن الحواس لا تعطي أبدا إلا أمثلة, أي حقائق جزئية أو فردية, لكن كل الأمثلة التي تؤيد حقيقة عامة, مهما كان عدد هذه الأمثلة, فإنها لا تكفي لتقرير الضرورة الكلية لهذه الحقيقة نفسها, لأنه ليس من الضروري أن يحدث دائما ما حدث مرة أو مرات”(45).
وأنقل توضيحا ًعن ابن تيمية ما ضربه من أمثلة:”الحاسة لا يميز بها بين الأشياء, بل مجرد السمع الذي يدرك الصوت لا يميز بين صوت وغيره, بل يحس الصوت, ثم يحكم على الصوت بأنه غير اللون يُعرف بغير الحاسة, وهو العقل, وبه يُعرف غلط الحس, فالأحول يرى الواحد اثنين, والممرور يجد الحلو مرا, ولكن العقل به يميز سلامة الحس من فساده, إذ قد استقر عنده ما يُدرك بالحس السليم, فإذا رأى من له عقل حسا يدرك به خلاف ذلك علم فساده, ونظر في سبب الفساد”(46).
“نحن إذن نؤمن بحجية الحس والتجربة دون أن نكون حسيين أو تجريبين, وللتجربة والحس دور في البحث عن الدين الحق عندما يتعلق البحث بقضايا محسوسة أو قابلة للتجربة”(47).
خاتمة:
أقول نهايةً أنه لو شك المرء في المعرفة العقلية كلها لانتهى به الأمر كما انتهى بأبي حامد الغزالي حين حكى عن تجربته, حيث أفضى به الشك إلى الوقوع في الحيرة وعدم العلم مطلقاً, وقال الغزالي:”الأوليات ليست مطلوبة: فإنها حاضرة, والحاضر إذا طُلب فُقد واختفى”(48).
و”إن الكش في صدق الحواس قرين الشك في العقل, لأن مصدرهما واحد, ورفض أحدهما وقبول الآخر لا يمكن أن يجد لنفسه أرضية معرفية أو وجودية, فإنه إذا كان المصدر – سواء قلنا إن المصدر هو الله سبحانه أم الطبيعة – امتنع تصديقه في بعض الأمر وتكذيبه في بعض الآخر, دون برهان للتمييز والانتقاء”(49).
وأنه حتى الذين لا يؤمنون بالعقل والدين, فلا يمكنهم سوى التصرف بأنهما صحيحان.
هذا وخير الكلام كلام الله ,وخير الهدي هدي نبيه ,وصلى اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المراجع
1) النجاة لابن سينا ص 64.
2) معجم التعريفات للجرجاني ص 40.
3) البصائر النصيرية للساوي ص 220.
4) أبحاث جديدة في الفهم الإنساني لبتنز ترجمة د. أحمد فؤاد كامل ص 76.
5) درء التعارض لابن تيمية مجلد 3 ص 309.
6) الفصل لابن حزم مجلد 5 ص 109.
7) درء التعارض لابن تيمية مجلد 6 ص 106.
8) المرجع السابق مجلد 3 ص 308.
9) المعرفة في الإسلام لعبد الله القرني ص 309.
10) مدارج السالكين مجلد 1 ص 289.
11) مجموع الفتاوى مجلد 2 ص 15.
12) شموع النهار ص 12.
13) من مقدمة الفصل بين النفس والعقل لعبد العزيز الطريفي بتصرف.
14) https://abozaralghifari.blogspot.com/2017/…/blog-post_1.html
15) منهاج السنة النبوية لابن تيمية مجلد 2 صفحة 644.
16) درئ التعارض لابن تيمية مجلد 6 ص 15.
17) تلخيص منطق أرسطو لابن رشد ص 4 مجلد 399.
18) انظر الحد الأرسطي اصوله ولوازمه وأثاره على العقيدة الإسلامية
لسلطان العميري ص 288-290 .
19) الاستقامة لابن تيمية مجلد 1 ص 30.
20) الصواعق المرسلة لابن القيم مجلد 2 ص 660.
21) الإحكام في أصول الأحكام مجلد 2 ص 22.
22) الحد الأرسطي ص 292.
23) المرجع السابق
24) احياء علوم الدين مجلد 3 ص 10.
25) نشأة الفلسفة العلمية لهانز ص 84.
26) الفلسفة الحديثة لكريم متى ص 151.
27) انظر تمهيد للفلسفة لمحمود حمدي ص 153.
28) الحد الأرسطي 296.
29) معيار العلم للغزالي 220.
30) البخاري برقم 1359 ومسلم برقم 2658.
31) البصائر النصيرية في علم المنطق ص 247.
32) دراسات في الفلسفة الحديثة محمود حمدي ص 170.
33) انظر تاريخ الفلسفة الحديثة ليوسف كرم 144.
34) الحد الأرسطي 297.
35) ديفيد هيوم زكي نجيب محمود ص 121
36) المرجع السابق ص 36
37) إمانويل كانت: عبد الرحمن بدوي ص 175-177
38) مقالة في العقل والنفس لمسكويه
39) انظر: علم النفس جميل صليبا ص597-599
40) المرجع السابق 597
41) نظرية المعرفة في الإسلام ص 39بتصرف
42) انظر: علم النفس جميل صليبا ص597-599
43) انظر: العقل والوجود يوسف كرم ص146
44) براهين وجود الله ص90
45) نقله عبد الرحمن بدوي مدخل جديد إلى الفلسفة ص164-165
46) ابن تيمية: بغية المرتاد في الرد على الفلاسفة ص267-268
47) براهين وجود الله ص91
48) المرجع السابق ص81
49) المنقذ من الضلال ص68
50) براهين وجود الله ص89