إن أي تدوين لتاريخ الأفكار الاقتصادية لابد أن يتضمن مساهمات المفكرين العرب والمسلمين، وطبقاً إلى هنري (1990م) (استطاع العلماء العرب، كمجموعة اجتماعيه أن يبلغوا وضعاً علمياً متواصلاً في فترة القرون الوسطى، التي اتصفت باللاعلمية).
ومن هؤلاء المفكرين أبو يوسف الذي كتب في موضوع الخراج (الضرائب)، ويحيى بن آدم الذي كتب في الموضوع ذاته وتحت العنوان نفسه، وما كتبه عبد الرحمن بن خلدون (808-733هـ – 1332-1406م)، الذي تناول مظاهر النشاط الاقتصادي أو ما أسماه «بوجوه المعاش»، وكذلك تناول القيمة وكون العمل في نظره مصدراً لها، ويذهب ابن خلدون أبعد من ذلك ليصل إلى فكرة فائض القيمة على الرغم من أنه لم يذكر ذلك صراحة بل ذكره ضمناً من خلال تأكيده على استعمال أصحاب الجاه للناس من غير عوض، ليوفروا عليهم قيم أعمال الناس.
ولعل من أبرز ما يمكن الاستعانة بذكره للاستدلال على الفكر الاقتصادي العربي هو ما كتبه المؤرخ تقي الدين المقريزي
( 846 – 766هـ – 1364-1442م) بخصوص الظواهر النقدية، وكذلك ما كتبه حول ظاهرة المجاعات وإرجاعها إلى أسباب طبيعية وأسباب اجتماعية، بعضها سياسي يتمثل في فساد الإدارة، وبعضها اقتصادي يتمثل في تزايد كلف الإنتاج وزيادة المعروض النقدي [1].
————————–
تقي الدين المقريزي :
هو تقي الدين أبو العباس أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن تميم بن عبد الصمد بن أبي الحسن بن عبد الصمد بن تميم، ابن علاء الدين بن محيي الدين الحسيني العبيدي، البعلبكي الأصل المصري المولد والدار والوفاة، المقريزي الحنفي ثم الشافعي. عاصر المقريزي دولة المماليك البحرية ودولة المماليك البرجية، وشغل العديد من الوظائف في عصره قاضيا وإماما.
إلا أن النقلة النوعية المهمة في حياته تمثلت بتوليه وظيفة المحتسب إذ عينه السلطان برقوق محتسبا للقاهرة والوجه البحري في رجب سنة 801 هـ/ 1398م، وهذا العمل كان من الأعمال المهمة في ذلك الوقت والتي من خلالها اطلع على أحوال مصر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتي سطرها في كتبه مثل الأسعار، والضرائب، والإجراءات الرسمية المتخذة بشان تلك القضايا.
ويبدو أن المقريزي ضاق ذرعا بمسئوليات هذا المنصب التي شغلت وقته ليلا ونهارا عن وصرفته عن القراءة، وفي ذلك الوقت تزوج المقريزي وأنجب ابنته التي ماتت بالطاعون الذي اجتاح مصر سنة 806هـ / 1403م، وهذا الطاعون هو الذي أوحى إليه بتأليف كتابه “إغاثة الأمة بكشف الغمة” [2].
————————–
إسهامات المقريزي الاقتصاد
لقب المقريزي بأبي النقود، حيث يُعتبر من أوائل الكتّاب الذين كتبوا في الأزمات، وأول مَن تكلَّم عن أثر السياسة النقدية في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية (التضخم والأسعار)، وأول مَن ربط بين السياسة النقدية والتقلبات الاقتصادية (الأزمات والمجاعات) حيث اهتم هذا المفكر بالازمات الاقتصادية وبخاصة بالازمة التي مرت بالعالم الاسلامي للفترة (1392 ـ 1404م) وبالتخصص في مصر.
حيث تعرضت للمجاعة الطاحنة، والتي بين المقريزي ان سببها بالدرجة الاولى يكمن في فساد الحكم وسوء الادارة الاقتصادية وزيادة اكلاف الانتاج. وكل هذه الامور تقود بالضرورة إلى ارتفاع الاسعار للمواد الغذائية، ومع زيادة اكلاف الانتاج في الزراعة، فإن المنتجين يخرجون من حلبة الانتاج فينقص العرض ويزداد الثمن مرة ثانية ومع ازدياد الاثمان تزداد الشرائح الاجتماعية التي هي حول خط الفقر، لتصبح في اسفله.
هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن السلطات الفاسدة تعمد إلى فتح كميات من النقود ومن النوع الرديء (ذات العيار المنخفض) لتلبية متطلباتها في الادارة والأمن (وهي نفقات غير منتجة) فتزداد البلة طيناً، فترتفع اسعار المنتجات مرة ثالثة وهكذا..
وهنا وضع المقريزي يده على الاساس لنظرية كمية النقود التي صاغها بعده ارفنج فيشر بحوالي خمسة قرون.. واثرها على المتغيرات الاقتصادية.
حاول المقريزي ان يضع حلاً لمشكلة زيادة عرض النقود فطالب بان تصك من المعادن النفيسة حتى يمكن تحديد كميتها وتقليص عرضها، نظراً لكون عرض هذه المعادن محدوداً. ورأى ان يقتصر الصك على معدن واحد (اما الذهب أو الفضة) واستبعاد النحاس (لانه يؤدي إلى اختفاء التداول في المعادن النفيسة) ورأى ان للفضة قيمة سلعية اخرى وثمينة غير النقود. وهذه القيمة السلعية للفضة تختلف عن قيمتها الاسمية كنقود، مما دفع مالكيها إلى صهرها واستعمالها في استخدامات اخرى.
ومن هنا نستنتج وبكل موضوعية ان المقريزي وضع الاسس لكل من قانون غريشام وقاعدة الذهب.
————————–
إن اهتمام المقريزي بالسياسة النقدية كأساس للتأثير على الهيكل العام للاقتصاد القومي يضعه ايضاً من رواد الفكر الاقتصادي النقدي حتى يومنا هذا، ذلك الفرع من الاقتصاد الذي بدأ الاهتمام به منذ الربع الاول من القرن الحالي على يد الكتاب السويديين ثم على يد الاقتصادي البريطاني الشهير (جون مينارد كينز) الذي احدثت آراؤه ثورة في علم الاقتصاد. واخيراً على يد اقتصاديي مدرسة شيكاغو الحالية في الولايات المتحدة الامريكية وزعيمها فريدمان. تلك المدرسة التي تعد قمة الاهتمام بالجوانب النقدية في علم الاقتصاد.[3].
يُصنَّف المقريزي من بين علماء الاقتصاد نظراً لاهتماماته المتزايدة برصد التاريخ الاقتصادي ومحاولة تفسير بعض الوقائع الاقتصادية، حيث شرح في مؤلفاته الاقتصادية – إغاثة الأمة بكشف الغمة (تشخيص للأزمات التي حلّت بمصر وأسبابها) وكتاب المكاييل والموازين الشرعية، وكتاب شذور العقود في ذكر النقود (رسالة في النقود الإسلامية) – وركَّز بشكل واضح في تلك المؤلفات على الجوانب التالية:
• الأسواق من حيث أنواعها وتاريخها ومواقعها قديماً وحديثاً بالنسبة إلى زمنه.
• الفساد الإداري والاقتصادي الذي ميَّز بعض المراحل من تاريخ الدول الإسلامية.
• الموازنة العامة للدولة وطرق تحضيرها، والنظم التي مرّت بها عبر العصور والدول.
• النقود والمراحل التي مرت بها، والسياسات النقدية المختلفة.
• النظم الاقتصادية التي سادت البحر الأبيض المتوسط في فترة ما بعد الحروب الصليبية.
• علاقة الضرائب بالأسعار (راجعية الضريبة، أي رجوع عبئها على المستهلك النهائي).
• الموازين والمكاييل (وقد خصَّص لها مؤلَّفاً خاصاً). [4]
————————–
المراجع :
1) المذاهب الاقتصادية – الموسوعة العربية – مجلد (18) صفحة (283)
2) المقريزي مؤرخ مصر الاسلامية – موقع قصة اليوم
3) رواد الفكر الاقتصادي الإسلامي – أ.د. محمد عارف كيالي – صحيفة البيان الاقتصادي
4) المقريزي.. إسهاماته العلمية في احتواء الأزمات الاقتصادية – د. عبد الحليم عمار غربي – مجلة الاقتصاد الإسلامي.