القراءة فقط : تبني مثقفا ولا تبني عالما ..!!
لكي تكون عالما : لا بد من أن تمتلك ملكة البحث والتنقيب والإستقراء وملكة الحفظ
فالعِلم صيد والكتابةُ قَيْدُهُ *** قيِّد صُيُودك بالحبال الواثقة
فمن الحماقة أنْ تصيد غزالةً *** وتتركها بين الخلائق طالقة
ولا بد من الممارسة والبحث ومناكبة العلماء والتعلم منهم
في أمريكا كنا نري الكثير ممن لدية حصيلة ثقافية مبهرة ولكن عند الاشتغال بالبحث العلمي يفشلون ولا ينتجون لأنه يتطلب ملكة خاصة بجانب مهارات لا تكتسب بقراءة الكتب ، وهذا ما لا يعرفة كثير من الشباب
أتذكر عندما نجحت في الثانوية العامة وكنت أريد الالتحاق بقسم الهندسة النووية بجامعة الأسكندرية منذ الثانية الإعدادي بعد قرائتي لكتاب مترجم عن الروسية عن أخطار الانفجارات النووية على البشرية في مكتبة جدي رحمة الله : فتعلقت بهذا المجال أيما تعلق.
وكان والدي معترضا ويريد إثنائي عن هذا الاتجاه ، وتحت ضغط مني اصطحبني لزيارة زميل له من الثانوي ، وكان الأول على القطر المصري في الثانوية العامة ، وحصل على الدكتوراه في الكيمياء الإشعاعية من تشيكوسلوفاكيا في ستينيات القرن المنصرم ، وذلك لأستفسر منه عن هذا المجال الغامض ومجالات العمل في مصر بعد التخرج من الجامعة ، فأبي رحمة الله عليه كان حريصا علي معرفة مصيري بعد التخرج ، فسألني هذا العالم المصري الدكتور عبدالوهاب السبع الأستاذ وقتها بمركز تكنولوجيا الإشعاع سؤالا واحدا :
لماذا تريد الإلتحاق بقسم الهندسة النووية ؟
فقلت له : أريد أن أكون عالما
فقال : لكي تكون عالما لا بد أن تكون لك ملكة البحث والاستقراء والصبر والجد والمثابرة ، ثم أردف قائلا : نرى كثيرا من الشباب ممن يحصلون على أعلي الدرجات في كلياتهم ، ثم هم يفشلون في الماجستير والدكتوراه ويتعاملون معهما كما يتعاملون مع دراستهم التخصصية من قراءة كتب وحفظ وصم ، وخاصة في مصر ، والتي غالبا ما تقضي على ملكة الإبداع والبحث والتنقيب.
كما أتذكر حين تخرجت أولا على دفعتي بإمتياز مع مرتبة الشرف الأولي ولم أعين في الجامعة وعملت معيدا بمشروع مفاعل مصر البحثي ، فابتعثتنا الحكومة المصرية للمساهمة في تصميم المفاعل النووي في شركة إينفاب في الأرجنتين ، وكنت حينها في منتصف العشرينات من عمري
بدأت بتعلم أصول المهنة في التصميم النيوتروني لقلب المفاعل ، وكذلك التصميم الحراري لأحد التجارب ، أحسست حينها أن ما تعلمته في الجامعة شيء ، والحياة العملية البحثية والتصميم والهندسة شيء آخر.
التصميم الهندسي لا بد له من ملكة خاصة ، فلربما وجدت أكثر من طريقة للتصميم وكل شيخ وله طريقة كما يقولون ، ولكن المهندس الحاذق الماهر هو الذي يقوم بتصميم ما يوكل إليه بأسهل الطرق إن استطاع وأقلها تكلفة وتعقيدا ، مع ربط ما صمم ببقية أجزاء التصميم المنوط به الآخرين وكذلك العالم والباحث.
صحيح أن البحث العلمي يعتمد على ما تدرسه وتقرأه ، ولكنه غير كاف وحده للقيام بالبحث والتنقيب.
وقبل حصولي على الدكتوراه من جامعة ويسكونسن ماديسون ، كنت في حديث شيق ذات مرة مع مشرفي الدكتور ريموند فونك أحد كبار العلماء في فيزياء الإندماج النووي ، والذي كان مما قاله لي أننا نعلمكم في الدكتوراه كيف تفكرون وتجتهدون وتحصلون على المعلومة ، وكيف تتعاونون مع نظرائكم وأعوانكم ، وهذا هو بداية الطريق لبناء العالم المجد المجتهد.
كذلك عندما عملت بشركة إنتل في بحوث تطوير صناعة الميكروبروسيسور ، وكان مجال الدكتوراه الإندماج النووي بعيدا كل البعد عن مجال العمل ، ولكن إنتل كان بها جامعة خاصة تسمى إنتل يو ، تقوم بالتدريس فيها للملتحقين الجدد موادا في كل التخصصات العلمية من نانوتكنولوجي ، لدفيس فيزيكس ، لفابريكاشن ، لاستاتستيكال ديزاين أوف اكسبرمنت ، لبوليسيز ، بجانب تخصيص أحد قدامى المهندسين لتعليمك أصول العمل في المعمل وطرق إجراء التجارب على الأجهزة المعقدة لديهم.
أكاد أجزم أني لو مكثت جل حياتي أقرأ في النانوتكنولوجي دون التعلم على يد هذا الزميل وغيره الكثير من أصدقاء العمل : ما كنت أنجزت ولا تعلمت شيئا.
ثم أتذكر حينما تركت شركة إنتل للعمل بالجامعة كأستاذ بقسم الهندسة النووية في جامعة ولاية كانساس الأمريكية : أن اشتغلت في موضوع بحثي عن الإندماج النووي في تجربة لم يسبق لي لا القراءة عنها ولا العمل عليها من قبل.
قرأت فيها عشرات بل مئات الورقات العلمية ، وجمعت الآلاف في هذا التخصص وغيره كي يكون لي نبراسا لبداية العمل ، ثم قمت بزيارة جامعة نانيانج التكنولوجية في سنغافورة للاستفادة من خبراتهم ، حيث أن لديهم مجموعة من أشهر علماء العالم ، فقمنا بتوقيع برتوكول تعاوني لمساعدتي لبناء هذه التجربة ، وأحضرت طالبين من جامعة الزقازيق للعمل معي في الدكتوراه في هذا المجال وعلي هذه التجربة.
كان العمل في بدايتة شاق وتطلب منا الكثير من الجهد والجد والمثابرة ، حتى أني كنت أقضي أكثر من ثمانية عشرة ساعة في اليوم في المعمل ، وواجهتنا الكثير من المشاكل والصعوبات التي كنا نتغلب عليها أحيانا بالبحث عنها في الليتريتشر ، أو بسؤال أصدقائنا من العلماء في جامعات أخرى ، أو بالبحث والتنقيب وابتكار الحلول غير المسبوقة حتى بدأنا بالنشر بعد ما يقارب الستة إلي ثمانية أشهر.
ثم قمت بدعوة أحد فطاحل العلماء في هذا المجال هو ومساعِدته إلي الجامعة وتكفلت بكل شيء لهما من تذاكر طيران الي سكن ومأكل ومشرب لمدة شهر ، وقمنا بعمل ورشة عمل لتعلم الحسابات الخاصة لهذه التجربة بواسطة برنامج يحمل اسم هذا العالم السبعيني واسمه
سنج لي.
ولولا وجود هذا العالم في معملي وتعلمي وتلامذتي منه أصول الحسابات التجريبية والخبرات المعملية لمكثنا فيها أبد الآبدين نحبو بغير هدى.
إذا نظرنا لحياة كثير من فطاحل العلماء كفاراداي مثلا والذي لم يلتحق بالجامعة : سنجد أنه رافق أحد فطاحل علماء عصره وهو همفري دافي ، ليعمل له مساعدا يحمل عنه كتبه وأشيائه في أسفاره ، وليس في بحثه ، وهو ما هيئ له الاستفادة من علمه.
ومع اتساع نطاق العلوم الطبيعية والمعرفة البشرية وتمددها فإنك تجد العالم اليوم متخصص في جزء من فرع من العلوم ولا يحيط بكل فنون تخصصاته ، ولذلك لا يسأم من الإجابة بلا أعرف إن سئل فيما أشكل عليه ، فلا غنى عن المعلم في بدايات التعلم ومزاحمة العلماء ومناكبتهم.
دعوتي للشباب الذين ينشدون العلم ويبتغون العمل بالبحث العلمي : بجانب قراءتك أن تتلمذ على يد عالم باحث يأخذ بيدك إلي أول الطريق ، ويعلمك أصول المهنة ، ففيها كثير من الخفايا مما لن تجده في أمهات الكتب.
فالقراءة وحدها لا تبني عالما
وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم حين فرق بين الناس في مراتب التعلم.
حَدَّثَنَا ابْنُ شُعَيْبٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : ” نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي هَذِهِ فَوَعَاهَا ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ “.
الناس متفاوتون في طلب العلم وتحصيله وفهمه والاستفادة منه
مشاركة من صفحة الدكتور مهندس علي عبده – أستاذ مشارك الهندسة الميكانيكية والنووية بجامعة الشرق الأوسط الأمريكية – الكويت
رابط المنشور الأصلي : هنا