جاء الإسلام بعدما ساد الظلام أكثر بقاع الأرض؛ ليحوّل العالم إلى منحنٍ آخرَ، وليُخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن جَور الأديان والسلطان إلى عدل الإسلام، ومن عبادة العِباد إلى عبادة رب العباد، وليُحييَ النفوس، ويُنيرَ القلوب بنور الوحي، وليُقرَّ الحق، ويُعيدَ تأسيسَ المجتمعات وبناءَها من جديد؛ لتستقيمَ الحياة البشرية وفقًا للتصوّر الإسلامي، حتى يكونَ لا سلطانَ لغير الله في أرض الله، ويكونَ الدينُ كله لله، فيتحقق للإنسان بذلك تمامُ الحرية التي تكمن في كمال العبودية لله.
وفي سبيل هذا كان هناك مراحل، ولكل مرحلة وسائل خاصة بها، فتكوّنت بذلك سمات هذا الدين، ومن أهم السمات التي تميزه “الواقعية”، فهو دين يواجه واقعًا بشريًّا فلا يُقابله بنظريات وتنظيرات فلسفية مجردة، ولا يقابل الواقع بوسائل جامدة، إنما بوسائل مكافئة له. تمثّلت هذه الواقعية في عدة أمور، من أبرزها مثلًا: امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم عن هدم الكعبة، وإعادة بنائها على غرار عمارة إبراهيم عليه السلام؛ خشية أن يُفتَتَن الناس في دينهم؛ نظرًا لحداثة عهدهم بالإسلام.
ليس هذا فحسب، فمنذ قيام دولة الإسلام ومركزها المدينة المنورة حيث قويت شوكة المسلمين، وحتى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومجيء أبي بكر الصديق بعدَه، ظل التعامل الرسمي في الدولة بدنانير الروم، بالرغم من أن عليها الصليب والثالوث المُقدس أصل عقيدة النصارى المُحرّفة، وبدراهم الفرس، بالرغم من معبد النار المنقوش عليها أصل عقيدة المجوس الفاسدة، وهذا كله يتنافى مع أصل التوحيد الذي ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إليه، إضافة إلى صورة كلٍّ من كسرى الفرس وهِرَقْل الروم، اللذين يُمثلان سلطان البشر في الأرض، الذي يتعارض مع حاكمية الله وسلطانه الإلهي في الكون. ولكنّ أي تغيير في أحد منهما يعني حربًا عالمية على الاقتصاد العالمي الذي كان في يد الروم والفرس، وربما كان سيحدث أول تحالف بينهما للقضاء على الدولة الإسلامية الناشئة، ناهيك عن الحروب الداخلية، من شأن كل ذلك إحداثُ تغيير جذري في مجرى الأحداث، وربما ما قامت بعدئذ للإسلام قائمة.
وليس هذا تمييعًا للدين أو تعطيلًا للشريعة، فقد كان تعاملهم بها وفقًا للمنظور الشرعي، فلم يُحلَّل الربا مثلًا، ولم يُتّبَع نهج الفرس أو الروم في معاملاتهم المالية، وانظرْ إن شئت متى بدأ أول تعريب للعملة. لقد كان في عهد الفاروق خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أول تغيير، لكنه محصور على الدراهم فقط؛ لوقوع فارس في قبضة المسلمين وانتصار دولة الإسلام عليها، فبدأ بكلمات بسيطة متّبعًا نهج الرسول عليه الصلاة والسلام “مرحلية مُدركة للواقع”، كلماتٍ تُعبر عن الهوية الإسلامية للدولة مثل “بسم الله” و”الله أكبر”، ولم يحدث أي تغيير في الدنانير البيزنطية؛ لقوة الروم العالمية، حيث لم يتمَّ القضاءُ عليها أو الوصولُ إلى التكافؤ العالمي إلا في عهد بني أُمية، حيث عُرّبت العملات جميعًا في عهد “عبد الملك بن مروان”، متبعًا كذلك “المرحلية”، وكان لها العديد من الأسباب لا يتّسع المجال لعرضها.
وكان هذا نوعًا من وسائل مواجهة الواقع وتغييره، فيما يخص مجابهة الاقتصاد العالمي على الهَدي النبوي في المتجمع الإسلامي الأول المَنبع والمرجع للمجتمعات في كل عصر، حيث إن الاقتصاد والقوة العسكرية للدولة هما جناحا الطائر، والدين هو رأسه، والسياسة هي ذيله، ولا بد أن يكون كل ذلك ضمن تصور إسلامي شامل.
المراجع:
محمود شاكر، سلسلة التاريخ الإسلامي.
عاطف منصور، المسكوكات المبكرة.