المستوى فوق الجيني
انهيار مسلمات – وباب جديد في علم الجينات
بعد وضع المسلّمة الأساسية في البيولوجيا الجزيئية (جين=> RNA=> بروتين) كانت الفكرة السائدة أن وجود صفة ظاهرية أو اختفائها متعلق فقط بتسلسل الـ(DNA) (الحمض النووي منزوع الأوكسجين)، وفقط عند اختلاف هذا التسلسل نتيجة طفرات تتغير الصفة الظاهرية أو تختفي؛ إلا أنّ مفاجأة كبيرة قد حصلت.
وجدت كثير من الأبحاث أنّ تغير تسلسل الجين ليس حتميًا لتغير الصفة الظاهرية، فقد تتغير الصفة الظاهرية مع وجود نفس التسلسل؛ نتيجة العديد من العوامل، وسنذكر لكم في مقالنا الأسباب مع أمثلة على حصول مثل هذه الحالات، بسم الله نبدأ:
لعل أشْيَع الأسئلة في العلوم لدى طلاب المرحلة ما قبل الجامعية هي: (ألم يخطر في بالك لمَ تختلف خصائص ووظائف وصفات خلايا الكبد عن خلايا الجلد مع أن كليهما يحمل نفس المادة الوراثية؟؟)
يرجع ذلك إلى نفس الفكرة التي تحدثنا عنها في المقدمة حيث تحدث عدة تعديلات على شريط الـ(DNA) أو الأحماض الأمينية في بروتين الهستون التي يلتف عليها (DNA) فتعمل هذه التعديلات كمؤشر للجين متى يصبح نشطًا ومتى يصبح غير نشط في بعض الأوقات؛ وبهذه الطريقة يتغير شكل ووظيفة الخلايا في أعضاء الجسم المختلفة رغم أن المادة الوراثية لهذه الخلايا المختلفة واحدة. لكن هذا ليس مثالًا واضحًا تمامًا، فلنكمل:
ما هو الـ(Epigenetics)؟
يسمى هذا المستوى بالتخلق المتوالي، وهو العلم الذي يدرُس التغيرات الموروثة في التعبير الجيني والتي لا تتضمن تغيرًا في تسلسل الحمض النووي، أي يحدث تغيرٌ في النمط الظاهري (الصفات الظاهرية) دون أي تغيير في النمط الجيني (تسلسل الحمض النووي)؛ نتيجة عوامل مختلفة.
ومن الأمثلة التي سنشرحها في المقال:
– اختلاف عيون ذبابة الفاكهة عند تطابق تسلسل الدنا.
– اختلاف ألوان الفئران الآغوطية.
– السرطان: وهو أشهر الأمثلة وأشيعها استخدامًا.
من تلك العوامل:
– السن
– العوامل البيئية
– نمط الحياة
– الحالة المرَضية
قد تظهر هذه التغيرات في أي وقت من عمر الخلية نتيجة خلل ما مسببةً العديد من الأمراض، كالسرطانات والعديد من المتلازمات.
ما آليات عمل تلك الأسباب على المستوى فوق الجيني؟
يوجد على الأقل آليتان رئيستان تتدخلان في ذلك، وهما:
– مثيلة الـ(DNA) (إضافة مجموعات الميثيل).
– التعديل على الهيستونات، حيث تقوم هذه الأنظمة بالتبدلات وتحافظ عليها.
هل لنا بـ أمثلة على صفات اختلفت رغم تطابق التسلسل في الحمض النووي؟
1- اختلاف ألوان عيون ذبابة الفاكهة:
حصل الباحثون على ألوان متنوعة لذبابة الفاكهة على الرغم من أن التسلسل الجيني واحدٌ، عن طريق التدخل في عمل مجموعة من البروتينات التي تعمل على إسكات الجينات المسؤولة عن النمو، عن طريق تعريضها لدرجات حرارة مختلفة.
2- اختلاف ألوان الفئران الآغوطية:
كان تسلسل الـ(DNA) نفسه عند فئران التجارب يعطي نمطًا ظاهريًا أصفر عندما تنقص ميثلة (إضافة مجموعات الميثيل) الجين، وقد يعطي نمطًا ظاهريًا بنيًا عندما يحصل ميثلة للجين.
لكن عندما قام الباحثون بإعطاء الفئران الصفراء وجبات غنية بمجموعة الميثيل أصبح معظم الأبناء ذوي لون بني؛ وهنا نرى الأثر الواضح لتبدلات التخلق المتوالي على الرغم من تطابق التسلسل الجيني.
3- السرطان:
كان السرطان أول مرض يُربَط بتبدلات التخلق المتوالي، حيث أظهرت دراسة عينات نسيجية ورمية انخفاض ميثلة الجينات الورمية في هذه الخلايا مقارنة بالخلايا الطبيعية. وكما أن السرطان قد يحدث عبر تفعيل زائد للجينات الورمية أو تعبير منخفض عن الجينات الكابحة للورم فإن زيادة ميثلة الجينات الكابحة للورم أو نقص ميثلة الجينات الورمية ستؤدي لحدوث السرطان. وبنفس الآلية فإن أستلة (إضافة مجموعات الأسيتيل) الهيستونات القريبة من الجينات الورمية ستؤدي إلى تفعيل زائد في التعبير عنها، بينما يؤدي نقص أستلة الهيستونات القريبة من الجينات الكابحة للورم إلى نقص في التعبير عنها؛ ومن ثَمّ ستؤدي أيضًا لحدوث السرطان.
يبدو أن العلم كلما رأى نفسه قد اكتمل اكتشف بابًا جديدًا لم يكن يراه من قبل (كما في فيزياء الكم حيث اكتشفوا الحاجة لفيزياء جديدة بعد ظنهم باكتشاف كل أسس الفيزياء) {{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء}} [البقرة: 255]
دمتم بصحة وعافية وزادكم الله علمًا.
أعدّه: حمزة حمو
راجعه: أحمد كمال
قوّمه لغويًا: طارق القضماني