المسلمون وأوروبا وانتقال البضائع الشرقية إلى أوروبا عبر جسر العالم الإسلامي (1000-1517):
في هذه الفترة كانت قد حصلت نهضة أوروبا الاقتصادية، ولا سيما في إيطاليا، وذلك بعد العام (1000) ميلادية، وهذا التاريخ يتوافق مع نهاية العصور المظلمة في أوروبا، لكن الفترة التي تلتها بنحو (500) عام كانت تسمّى: العصور المظلمة الباهتة أو المضيئة، في حين أنه بعد العام (1000) ميلادية تسارع النشاط الاقتصادي في المنطقة (الآفرو-آسيوية) حيث تنامت العلاقات التجارية بين آسيا وغرب إفريقية، وكذلك مع الهند والصين.
وفي الواقع، فإن منطقة الشرق الأوسط كانت تشكل جسراً اقتصادياً للعالم، وكما أشرنا سابقاً فإن هذا النظام التجاري هو الذي جعل تجار أوروبا مشتركين فيه وجزءاً منه، وقبل مناقشة هذا النظام الواسع يجب:
– توضيح الأسباب التي جعلت أوروبا عامة وإيطاليا خاصة تستفيد من تجارة آسيا.
– شرح دور منطقة غرب آسيا في ذلك على وجه الخصوص؛ فالشرق ليس جزءاً من علاقات أوروبا الاقتصادية وتجارتها البعيدة فقط، بل هو من الأسباب الحاسمة التي كان لها دور في صعود أوروبا اقتصادياً؛ ففي الحقيقة إن تجارة أوروبا لم تتحق إلا مع تدفق بضائع شرق آسيا، وخاصة التي دخلت عبر إيطاليا، وهذا لا يعني أن تجار إيطاليا لم يكونوا مهتمين بمنتجات ورؤوس أموال أوروبية، بل كانت تلك التجارة تشكل تجارة محورية للأوربيين؛ ومن ثَمّ ضخت مختلف البضائع إلى كافة أقاليم القارة، وغذت أنظمة التجارة الداخلية والخارجية، لكنها لم تكن قادرة على لعب الدور المركزي، وكانت إيطاليا إحدى القنوات الرئيسة التي دخلت من خلالها البضائع الشرقية إلى أوروبا؛ وبالطبع فإن هذه التجارة كانت تمر عبر الأراضي الإسلامية في مصر وشمال إفريقية وعبر موانئ البحر الأحمر.
ونريد الآن أن نرسم دور المسلمين في تجارة أوروبا مع آسيا خلال الفترة الممتدة من العام (1000-1517) ميلادية:
في حين أن طريق الشرق الأوسط كان هاماً للغاية إلى أن أهميته ازدادت بعدما أصبحت بغداد عاصمة العالم الإسلامي ومركزاً تجارياً له عام (750) ميلادية، لكن حينما دخل المغول بغداد عام (1258) وقاموا بنهبها = انحدرت أهمية هذا الطريق انحداراً مؤقتاً.
وفي الفترة التي حُكِمت فيها بغداد من فارس فإن الطريق عبر الخليج قد أعيد إحياؤه، لكن الطريق القديم كانت له أهميته أيضاً؛ بسبب علاقات تجار الممالك المسلمة القادمين من الشرق وتجار الممالك الصليبية على سواحل الشام، وكان تجار البندقية على علاقة مع الإمارات الصليبية المسيطرة على سواحل الشام، لا سيما عكا، وذلك حتى العام (1291)، وكان هناك أيضاً منافسون من جنوة وأماكن أخرى، وعلى الرغم من سيطرة تجار البندقية على تجارة السواحل الشامية إلا أنها كنت متوافقة مع الشروط المُمْلاة من التجار المسلمين، لا سيما من شمال إفريقية.
ومع سقوط عكا (1291) بيد المسلمين ما كان لتجار البندقية إلا الانتقال إلى الطريق الجنوبي الذي يسيطر عليه المصريون المسلمون، وذلك الطريق كان ملتقى لتجارة أخرى ترتبط بـ: البحر الأحمر ثم بحر العرب وبعده المحيط الهندي.
وبعد القرن الثالث عشر شكلت مصر بوابة المشرق الرئيسة، لكن في هذه الفترة كان التحكم في الطرق البحرية مع التجارة الأوربية في تراجع، وبقيت تلك القوة لدى مصر حتى القرن السادس عشر، وخلال الفترة (1291-1517) كانت (80%) من التجارة مع المشر قد عبر الممرات الخاضعة للمصرين، حيث أصبحت القاهرة -بعد سقوط بغداد- هي عقدة العالم الإسلامي، على الرغم من أنها كانت بيد العبيديين -الفاطميين- بادئ الأمر.
معظم المؤرخين الأوربيين يقولون: إن التجارة مع الشرق قد ضعفت بعد:
– سقوط عكا (1291).
– سيطرة المصريين على طرق التجارة والبحر الأحمر وأخذها من القوة الفرنجية.
وبعد هذا التاريخ، شرع التجار البرتغال مع بحارتهم في البحث عن طرق أخرى إلى الهند لا تمر عبر المسلمين، أما في البندقية فمع إعلان البابوية حظر التجارة مع المِلَل الأخرى قام بعض التجار بالتحايل على أوامرهم وأقاموا تجارة مع السلطان، وذلك في الفترات بين الأعوام (1355-1361)، وبقيت التجارة متوافقة بين البندقية والسلطان في مصر حتى عام (1517).
وعلاوة على ذلك فالبندقية وجنوة لم تكونا من الأساسات الكبيرة للاقتصاد العالمي آنذاك لكنهما ساهمتا في إغلاق الفجوات الاقتصادية التي تركها تجار آسيا وتجار المسلمين، فعلى وجه الخصوص لم يكن التجار الأوروبيون يمرون عبر مصر، فحينما كان تمر سفن الأوربيين التجارية كان الجمارك يشرف على البضائع التي يأخذها ويتركها، وكان تجار أوروبا يلقون مزيداً من الضرائب على تجارتهم مقارنة بالتجار المسلمين، إضافة إلى تأشيرة مدفوعة للسماح له بالنزول.
وفي أوروبا كانوا يدفعون نحو ربع تجارتهم كضريبة وَفق القانون الخاص بهم، وكان لا يسمح للتجار الأوربيين بمغادرة الإسكندرية وإنما يشتري بضائعه من التجار الآخرين هنالك، وأصبحت الحكومة المصرية للمماليك تعتمد في اقتصادها كلياً على الضرائب على التجارة، ومع ذلك كان تجار البندقية وغيرها يوافقون على ذلك؛ لأن الإسكندرية تتوفر بها كافة أنواع البضائع الواردة والمتداولة في معظم أنحاء المشرق، وفي الواقع فإن تجار البندقية اعتمدوا في نهضتهم اعتماداً شبه كلي على أسواق شمال إفريقية، وهذه الموارد أيضاً هي التي أعطت مختلف تجار إيطاليا الشهرة والقوة، ومعلوم أيضاً أن هنالك سلاسل تجارية ومالية قوية كانت مدعومة من الإيطاليين.
ومن أهم الابتكارات لدى الإيطاليين شيء يدعى: (commenda)، وكان هذا اتفاق بين المستثمر وتاجر الرحلة، وهو ليس دعماً برأس المال والمعلومات فقط بل كان مثل التداول والأسواق المالية، ويعتبر أقدم أسواق التوفير؛ ومن ثَمّ كان له انتشار التنمية الاقتصادية في أوروبا مثل اللهيب، وكان لهذه الفكرة جذور في الشرق الأوسط في فترة ما قبل الإسلام، وطُوّرت في عهد باكر من الإسلام باسم: (القراض) و(المضاربة)، وقد تطوّر هذا النظام وانتقل إلى أوروبا باسم: (commenda).
ولا ننسى أن سيّدنا محمّداً عمل مضارباً، ولا يُستغرب انتقال هذه الفكرة إلى أوروبا من المسلمين حيث كانت معظم تجارتهم مع المسلمين، ويُذكر أنه طُبّقت في القرن الثامن عقود القراض على الصناعة وليس التجارة فقط، وأخذ الإيطاليون في استكشاف مجالات أخرى، مثل: الصرافة، والائتمان، والتأمين، والمؤسسات الصرافة.