المصارف الإسلامية (الجزء الثاني)
بعد أن بزغ فجرُ الإسلام، حرّم الربا وأبقى ما عداه من التعامُلات التجاريّة، فكُتُبُ التأريخِ الإسلاميِّ تحدّثتْ عن نشاطات لكثير من المُعاملات المصرفيّة التي قام بها المسلمون منذ صدر الإسلام الأوّل.
ومن هذه الأعمال المصرفيّة أنّ الزبيرَ بنَ العوّام رضي الله عنه كان يأخذ من الناس الدراهمَ بمكة المُكرمة ثم يكتب بها إلى مُصعبِ بنِ الزبير بالعراق فيأخذونها منه، فكان للزبير دُكانٌ بالفسطاط، وثانٍ بالشام، وثالثٌ بالكوفة، ورابعٌ بالبَصرة، وكان له عشَرة دور بالمدينة، فكانت بمثابة فروع لمصرف واحد، حتى إنّ بعض المُعاصرين سمّاها مصرفَ الزبير، وكانت هذه الدكاكين تؤدّي أعمالًا مصرفية بمفهومها الحديث، ومن البَدَهيِّ أنّ هذه الأعمالَ كانت تُدار عن طريق الحَوَالة والمُقاصَّة ووجود حساباتٍ مفتوحة تُقيَّد فيها الديون مما يؤكّد وجود طرق اتصال تربط بعضَهم ببعض.
ومثلُ هذه المُعاملات المصرفيّة أيضًا ما كان يقوم به عبدُالله بنُ عمرَ رضي الله عنه من عمليّات صِرافة بين عُملتَين مُختلِفتَين؛ الدراهمِ والدنانيرِ، وذلك كما ورد في الحديث الشريف أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: “إنّي أبيعُ الإبِلَ بالبقيع، فأبيعُ بالدنانير وآخذُ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه”، فقال صلى الله عليه وسلم: “لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء“. [1]
فهذا الحديث يدلُّ على النشاط المصرفيّ الذي كان بين الصحابة رضوان الله عليهم، وجواب النبي صلى الله عليه وسلم “بسعر يومها” يدلُّ على أنّ العرب والمسلمين كانت لديهم بورصة لتحديد الأسعار بصفةٍ يوميّةٍ بطريقة كانت مُتعارَفة عليها فيما بينهم. [2]
ولا يصحّ حديثنا دون ذكر “بيت مال المسلمين“، فقد كان أشبه بالمصرف المركزي في وقتنا الحالي، وقد كان من حقّ المسلمين أنْ يقترضوا من بيت المال، لا فرق في ذلك بين أمير ومأمور، فقد اقترض عثمانُ بنُ عفانَ من بيت المال مبلغًا يُقدّر بمائةِ ألفِ درهم، وكتب عليه بها عبدُالله بنُ الأرقمِ، وأشهدَ عليه عليَّ بنَ أبي طالبٍ وطلحةَ والزبير وسعدَ بنَ أبي وقّاص وعبدَالله بنَ عمرَ، فلما حلَّ الأجلُ ردَّه عثمان. [3]
وفي عصر عُمرَ بنَ عبدِالعزيز رحمه الله سعَتْ الدولةُ إلى إعادة هيكلةِ بيتِ المال وترتيبه وإصلاحه من خلال إيراداته: الزكاة، والجزية، والخراج، والعشور، والأخماس. [4]
ولما استطاع عُمرُ بنُ عبدِالعزيز رحمه الله تحقيقَ العدالة الاجتماعيّة والماليّة في جمع إيرادات بيت المال، ومساعدة الشباب، أمرَ بأنْ تتمّ عمليّةُ التسليفِ الزراعيِّ من بيت المال بصفته بنكًا للدولة، حيث يُقدِّم القروضَ للمُزارِعين إذا ما أصابتهم نائبة أو ضائقة؛ فقال لِواليه: “انظرْ مَن كانتْ عليه جِزية فَضَعُفَ عن أرضه، فأسلِفْه ما يَقوى به على عمل أرضه، فإنّا لا نُريدُهم لعام ولا لعامين“. [5]
نتابع معكم في الحَلَقة القادِمة إن شاء الله.