يعتبر كتاب (فتوح الشام) لأبي عبداالله محمد بن عمر الواقدي، المتوفى سنة(٢٠٧ للهجرة)، من أوسع الكتب التاريخية التي تحدثت عن غزوات المسلمين لبلاد الشام في عهدي الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر رضي االله عنهما بإسهاب وتفصيل.
ومما لا شك فيه أن هناك كتباً في التاريخ أوثق من ناحية الرواية، وأحفظ من جهة السند، إلا أن الواقدي في تاريخه (فتوح الشام) يبقى هو الأوسع والأبسط والأقرب إلى النفس من حيث التصوير الفني، والتعامل مع العواطف، والحديث عن المشاعر.
*أبو عبيدة ابن الجراح ومشاورة القادة:
وفي أول الأمر تردد أبو عبيدة بن الجراح رضي االله عنه القائد العام للمسلمين في بلاد الشام، بين التوجه من دمشق بل تحديداً من الجابية – التي اتخذت قاعدة لتجمع الجيوش الشامية – إلى قيسارية، أو الانطلاق نحو بيت المقدس. ؟؟
فجمع مجلس مشورته وسألهم: أشيروا علي بما أصنع وأين أتوجه، فقال معاذ بن جبل: اكتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فحيث أمرك فسر واستعن باالله.
وقد جاء رد عمر رضي االله عنه كما يلي:
(بسم االله الرحمن الرحيم،
من عبداالله عمر بن الخطاب إلى عامله بالشام أبي عبيدة، أما بعد: فإني أحمد االله الذي لا إله إلا هو، وأصلي على نبيه، وقد ورد علي كتابك وفيه تستشيرني في أي ناحية تتوجه إليها، وقد أشار ابن عم رسول االله صلى االله عليه وسلم – يقصد علياً رضي الله عنه – بالسير إلى بيت المقدس، فإن الله يفتحها على يديك. والسلام عليك).
*التوجه نحو بيت المقدس:
وهكذا بدأ أبو عبيدة بالتخطيط والتحضير لفتح بيت المقدس وهو يعلم يقيناً أنها ليست سهلة المنال، وأن الروم لن يفرطوا بها دون جولات وجولات…
فعقد سبعة رايات و عين سبعة أمراء على رأس خمسة آلاف فارس لكل راية، و سار الأمراء السبعة في سبعة أيام متتالية بجموع عددها خمسة وثلاثون ألفآ.
ويقول الواقدي: إن المناوشات الأولى استمرت أحد عشر يوماً قبل أن يتقدم أبو عبيدة، الذي كان المدد الأعظم والسواد الأكثر لجيش المسلمين، فتلقاه الناس بالتكبير والتهليل، وضجوا ضجة واحدة تجاوبت فيها القبائل والجموع، وملأ صداها الأرجاء، فأطلت الروم خائفة، فعلموا بمقدم أمير الأمراء وقائد الجند الأعلى أبي عبيدة، فداخلهم من الغم الشيء الكثير.
*كتاب أبي عبيدة لأهل القدس:
وكان أبو عبيدة رضي االله عنه كما جاء في كتاب (الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل) قد بعث الرسل إلى أهل إيلياء (بيت المقدس) ومعهم كتاباً لأهلها نصه ما يلي:
(بسم االله الرحمن الرحيم،
من أبي عبيدة بن الجراح إلى بطارقة أهل إيلياء وسكانها، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله وبالرسول، أما بعد:
فإنا ندعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا االله محمد رسول الله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، فإن شهدتم بذلك حرمت علينا دماؤكم
وأموالكم وذراريكم وكنتم لنا إخواناً، وإن أبيتم فأقروا لنا بأداء الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإن أنتم أبيتم سرت إليكم بقوم هم أشد حباً للموت منكم لشرب الخمرة وأكل لحم الخترير، ثم لا أرجع عنكم إن شاء الله أبداً حتى أقتل مقاتليكم وأسبي ذراريكم).
*النظر إلى أبي عبيدة من فوق السور:
واستمر حصار بيت المقدس أربعة أشهر، وأبو عبيدة لا يألو جهداً: في الحرب من جهة، والصبر على لأواء الشتاء من جهة أخرى. وقد أشرف ذات مرة كبير الروم وبطركهم على السور، وخاطب أبا عبيدة
وكان مما قاله: ما الذي تريدون منا في هذه البلدة المقدسة، ومن قصدها يوشك أن الله يغضب عليه ويهلكه. فأجابه أبو عبيدة: نعم إنها بلدة شريفة، ومنها أسري بنبينا إلى السماء، ودنا من ربه كقاب قوسين أو أدنى، وإنها معدن الأنبياء وقبورهم فيها، ونحن
أحق بها منكم، ولا نزال عليها أو يملكنا الله إياها كما ملكنا غيرها. فقال البطرك: أقسم لو أقمتم علينا عشرين سنة ما فتحتموها أبداً، وإنما تفتح لرجل صفته ونعته في كتبنا ولسنا نجد صفته ونعته معك أبداً.
*الكتابة إلى الخليفة الفاروق في المدينة:
وبعد أخذ ورد اتفق رأي أبي عبيدة أن يكتب إلى عمر بن الخطاب ليقدم إليه، راجياً أن يكون فتح بيت المقدس سلماً على يديه، فكتب أبو عبيدة رضي الله عنه الخطاب التالي:
(بسم االله الرحمن الرحيم،
إلى عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من عامله أبي عبيدة بن الجراح، أما بعد:
السلام عليكم، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي على نبيه محمد صلى االله عليه وسلم، واعلم يا أمير المؤمنين أنا منازلون أهل مدينة إيلياء، نقاتلهم أربعة أشهر كل يوم، نقاتلهم ويقاتلونا، وقد لقي المسلمون مشقة٠ عظيمة من الثلج والبرد والأمطار إلا أنهم صابرون على ذلك، ويرجون الله ربهم. فلما كان اليوم الذي كتبت إليك الكتاب فيه أشرف علينا بطرقهم الذي يعظمونه، وقال: إنهم يجدون في كتبهم أنه لا يفتح بلدهم إلا صاحب نبينا، وأنه يعرف صفته ونعته، وهو عندهم في كتبهم، وقد سألنا حقن الدماء فسر إلينا بنفسك وأنجدنا لعل الله أن يفتح هذه البلدة علينا على يديك. والسلام).
وقد حمل الكتاب إلى المدينة ميسرة بن مسروق العبسي فوصلها على جناح السرعة.
*اللقاء المنتظر: عمر والبطرك :
فلما كان الغد وصلى عمر بن الخطاب بالناس صلاة الفجر وارتفعت الشمس قال عمر لأبي عبيدة: يا عامر تقدم إلى القوم وأعلمهم أني قد أتيت.
فخرج أبو عبيدة وصاح بهم: يا أهل هذه البلدة إن صاحبنا أمير المؤمنين قد ورد فما تصنعون فيما قلتم؟. فأعلموا البطرك فخرج من كنيسته وعليه المسوح وترجل الرهبان والقسوس والأساقفة معه، وقد حمل بين يديه صليب لا يخرجونه إلا في عيدهم، ثم صعد على السور وأشرف، فخاطبه أبو عبيدة قائلاً: هذا أمير المؤمنين عمر، وليس عليه أمير، قد أتى
فاخرجوا إليه واعقدوا معه الأمان والذمة وأدوا الجزية. فطلب البطرك أن يدنو عمر وأن يقترب من السور لينظر إليه عن قرب. ولما أخبر عمر بذلك هم أن يفعل فتخوف عليه بعض المسلمين من غدر الروم فقال: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب االله لنا).
ثم أمر ببعيره فقدم إليه فاستوى في ركوبه عليه وعليه مرقعته ليس عليه غيرها وعلى رأسه قطعة عباءة قطوانية قد عصب بها رأسه، وليس معه غير أبي عبيدة وهو سائر بين يديه.
حتى قرب من السور ووقف بإزائه، والبترك والبطاليق عليه، فلما رأوه وعاينوه صاح كبيرهم: هذا والله الذي نجد صفته ونعته في كتبنا، ومن يكون فتح بلادنا على
يديه، هذا والله صاحب محمد بن عبد االله.
*العهدة العمري -كتاب أمان وعهد-:
ويراد بالعهدة العمرية هنا: الكتاب الذي كتبه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل بيت المقدس غداة فتحها، بعد أن تحصنوا بأسوارها دون جيش المسلمين بقيادة أبي عبيدة بن الجراح، وأبوا أن يستسلموا إلا لأمير المؤمنين نفسه، بعد أن استيقنوا أنه هو الذي تحدثت عنه الكتب السابقة بنعته وصفته وأنه يدخلها صلحاً برضا أهلها.
وها هو نص الوثيقة العمرية (العهدة العمرية) لأهل مدينة بيت المقدس (ايلياء) بين أيدينا كما جاء في المصادر التاريخية الموثوقة، وكما هو مثبت في نص الوثيقة الأصلية التي لا تزال إلى اليوم محفوظة في مكتبة كنيسة القيامة بالقدس. وهي من أقدم كنائس
النصارى وأجلّها قدراً عندهم بلا منازع.
(بسم االله الرحمن الرحيم،
هذا ما أعطى عبد االله: عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان. أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها، وسائر ملتها أن لا تسكن
كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صلُبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود.وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن. وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوت (يقصد اللصوص وقطاع الطرق). فمن
خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم. ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم. فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم. ومن شاء رجع إلى أهله. فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم.
وعلى ما في هذا الكتاب عهد االله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا ما عليهم من الجزية.
ثم كتب عقب ذلك أسفل الكتاب: شهد على ذلك: خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبدالرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان…
وكتب وحضر سنة ١٥ للهجرةـ.
-ونحن إذ نقول: إن العهدة العمرية ثبتت الوجود الرسمي، لا ننسى أن بداية الوجود الإسلامي في بيت المقدس ابتدأ في ليلة الإسراء والمعراج، أي قبل ذلك الفتح العسكري بقرابة (١٨ عاماً)..
المصدر:/ كتاب- المجد المُنيف للقدس الشريف- عبدالله نجيب سالم- الفتح الإسلامي لبيت المقدس- ص ٣٧-٥١/