من المُسلَّم به عند جماهير أهل الدِّيانات السماوية أن هذا الكون له بداية، وعند جمهور المسلمين بدرجة أولى، بل يبني المتكلِّمون منهم دليل الوجود الإلهي على دليل الحدوث (أو الإمكان) الكوني، ويمكننا بكل أمانة علمية أن نعتبر هذا الدليل أحد أقوى الأدلة العقلية على وجود الله.
وقد انتقل دليل الحدوث إلى الفلسفة اللاهوتية الغربية عن طريق المسلمين، ونَسَبه بأمانةٍ “ويليام لين كريغ” للإمام الغزالي ومتكلمي الإسلام في كتابه “The Kalam Cosmological argument”، بعد أن نقله عنهم وطوره، وكذلك نسبه لهم كل من بيتر فاردي و جولي أرليس في كتابهما “Thinker’s Guide to God”.
وصورة هذا الدليل الكلامي:
• كل ما له بداية يحتاج إلى مُبدئ
• الكون له بداية
• الكون يحتاج إلى مُبدئ
لكن علماء الكلام لم يأخذوا ببداية الكون كمقدمة تسليمية، بل بنوها على مقدمات أخرى، كالتغيُّر والحدوث المشاهد في الكون، فاستنتجوا ذاك من هذا.
والحاصل أن سواد علماء الأمة الإسلامية مُتَّفقٌ على أن كل ما سوى الله (كالكون) حادِثٌ كائِنٌ بعد أن لم يكن، والنصوص التي يستدلون بها في ذلك كثيرة، إضافة إلى الاستدلالات العقلية.
أما اليوم فنحن في عصرٍ توفرت فيه وسائل لم تكن متوفِّرة للناس من قبلنا، كالتطور الكبير الذي حصل في العلوم التجريبية مثلاً، إحدى أهم الثورات التي أنتجها الإنسان في تاريخه.
وإن العلم التجريبي باعتباره وسيلة من وسائل المعرفة، يستطيع هو الآخر أن يقول كلمته فيما يتعلق بحدوث الكون أو أزليته، خصوصا وأن هذه القضية تتعلق بصورة مباشرة بوظيفة العلم التجريبي، التي هي دراسة الظواهر الطبيعانية والمادية. وليست قضية ميتافيزيقية تتجاوز الحدود التي يستطيع العلم الإمبريقي أن يلعب عندها.
فما رأي العلم فيما نحن بصدده؟ هل هذا الكون حادث أم أزلي؟ وهل نستطيع بناء مقدمة دليل الحدوث على منطلقات علمية تجريبية؟
• دليل التوسع الكوني
منذ بزوغ فجر التطورات العلمية، كان الاعتقاد السائد عند جميع العلماء التجريبيِّين أن هذا الكون الذي نعيش فيه سرمدي، بلا بداية ولا نهاية، وكانوا يعتبرون من يقول بحدوث الكون مهرطِقاً متأثِّراً بالرُّهبان والقساوسة.
لكن عندما جاء آلبرت آينشتاين وبدأ بصياغة معادلات النسبيَّة العامة، لم تتفق النتائج التي توصل إليها مع “كون ثابت، أزلي”، بل وضعَته نظريته التي صاغها هو بنفسه في خيارين أحلاهما مرٌّ، إما أن هذا الكون ينكمش، وإما أنه يتمدد.
لم يتقبل آلبرت هذه الفكرة، فقام بصياغة ما يُعبَّر عنه ب “الثابت الكوني Cosmological constant”، يرمز له ب:لامدا (Λ) كتمثيل رياضياتي لكثافة طاقة منتشرة في الكون، تُعاكس تأثير الجاذبية، مما يجعل هذا الكون مستقرا، أو بالأحرى ثابتا.
لكن فرحةَ آينشتاين باكتشافه لم تدم طويلاً، بالضبط سنة 1929 عندما كان الفلكي الأمريكي إدوين هابل يقوم بمراقبة المجرات التي تحيط بنا والبعيدة بواسطة التلسكوب، لاحظ شيئا غريبا، وهو أن تلك المجرات القريبة منا تُحدِث انزياحاً طيفيا نحو الأحمر، ويتزايد حدوث هذا الانزياح في المجرات بتزايد بُعدها عن الأرض.
هذا الانزياح الأحمر Red Shift يعني أن تلك الموجات المنبعثة من ضوء المجرات تتطاول، ما يعني حسب تأثير دوبلير Doppler effect أن مصدر تلك الأمواج الضوئية ذات الإزاحة الحمراء يجري مبتعداً عنا، لأنه كلما ابتعد عنا مصدرٌ موجة ما، كأمواج الصوت مثلاً (والضوء كذلك باعتباره فوتونات ذات خاصية مزدوجة، جسيمية، موجية)، فإن طولها يزداد، وترددها ينقص، واللون الأحمر هو صاحب أكبر طول موجي مرئي، ما يعني أن مصدر ذلك الضوء يبتعد ولا يقترب.
منا هنا استنتج إدوين هابل أن هذا الكون يتمدد، وهنا سيأتي آينشتاين الذي لم يصدق الأمر، لينظر بنفسه في تلسكوب هابل، فيرى الإزاحة الحمراء ويقول عن ثابته الكوني: “هو أكبر خطإ ارتكبته في حياتي”، ثم يتخلى عنه من نظريته لاحقا. (وتجدر الإشارة أن الطاقة المظلمة اليوم، تلعب تقريبا نفس دور الثابت الكوني لآينشتاين) .
بعد ذلك تمَّ تأكيد نتائج هابل بحسابات وأدلة رصدية دقيقة، كما وافق ذلك حسابات الرياضي الروسي فريدمان، صاحب مقترح نموذج الكون المتوسع، والخلاصة أن التمدد الكوني يعتبر اليوم أحد الحقائق العلمية، بل في السنوات الأخيرة اكتشف العلماء أن الكون لا يتوسع فحسب، بل يتوسع بوتيرة سريعة جدا.
طيب، ما محل الشاهد هنا؟
يمثل المتخصصون لعملية التوسع الكوني ببالونة يقوم طفل صغير بنفخها ballon expanding، فلو قمنا بعكس عملية النفخ وبدأنا بسحب الهواء، فسوف تبدأ البالونة بالتقلص على نفسها، حتى تصل إلى نقطة البداية التي بدأت في التوسع منها، وكذلك الكون، كما أنه اليوم يتوسع، فلا بد أنه انطلق في يومِ بدايته من نقطة صغيرة جدا، لا يمكنه التقلص أكثر منها، ومن هنا جاء الاستنتاج: أن هذا الكون له بداية.
كما أنه لا يمكن أن يتوسع وهو أزلي، إذ لو كان كذلك لأدَّى هذا إلى تمزُّقه وتشتُّت مادّته وتبعثر أجرامه، أو إلى موته الحراري Heat death، وهذا دليل علمي آخر على بداية الكون، تمت معالجته في غير هذا المقال..
• دليل الانفجار الهائل
من الأدلة العلمية الحديثة على بداية الكون كذلك، نظرية الانفجار العظيم The Big bang theory.
تُخبرنا هذه النظرية أنه قبل 13.8 مليار سنة، هذا الكون الواسع الشاسع الذي نعيش فيه، قد انفتق بكل ما فيه من نقطة صغيرة أصغر من رأس الإبرة، بل أصغر أضعافاً مضاعفةً من الذرة، ذات حرارة وكثافة عاليتين جدا، وهي ما يعبر عنه ب “المتفردة Singularity”، التي يقولون إن الكون قد تضخم منها، ثم بعد التضخم تكونت الجسيمات الأولية كالإلكترون، ثم بعد ذلك تكونت ذرات الهيدروجين والهيليوم وبعض الليثيوم بنسب مضبوطة جدا Fine tuning تسمح بظهور الكون، ومن هذه الذرات تخلق الغبار الكوني الذي ستنشأ منه المجرات، ثم النجوم والكواكب فيما بعد..
طبعاً كانت هناك اعتراضات كثيرة على نظرية البيغ بانغ، خصوصا وأنها نظرية غريبة نوعاً ما، لكن عندما قام أرنو بنزياس وصديقه روبرت ويلسون سنة 1964 باكتشاف الخلفية الميكروية الكونية CMB، التي هي عبارة عن أشعة كهرومغناطيسية توجد في الكون كله بنفس الشدة والتوزيع، وتعادل درجة حرارة 2.725 كلفن، (وحصلا بها على نوبل) أصبح عندنا دليل رصدي قوي على هذه النظرية العلمية.
لنضرب مثالا تقريبيا على هذا الدليل.
تخيل أنك قمت بوضع بارودةٍ صغيرة في غرفة ما، ثم أغلقت الباب حتى سمعت الانفجار، ثم بعدها دخلت، هنا إذا استعملت بعض أدوات الرصد والقياس، فسوف تجد آثار الانفجار حتى لو لم تكن على علمٍ بوجود القنبلة ولم تسمع الانفجار أو تلاحظه، بل حتى لو كنت مسافراً وانفجرت قنينة الغاز (لا قدر الله) آناء غيابك، فسوف تتمكن من رصد آثار الانفجار الدَّال عليه، فكذلك الخلفية الميكروية الإشعاعية التي تم اكتشافها، هي بمثابة آثار وتوهجات باقية تدل على حدوث الانفجار الكوني.
ومع ذلك، ففي تقديري أن هذه النظرية هي من الأدلة الاستئناسية على بداية الكون، أو بالأحرى، هي أقوى نظرية حالية تشرح لنا كيف بدأ الكون، لكن هناك ما هو أقوى منها علميا في الدلالة والبرهان على بدايته، كدليل التمدد الكوني، وقوانين الثيرموديناميك، والمواد المشعة، وغيرها..
وقد اكتفيت في هذا المقال بإدراج دليلين علميين اثنين، لكونه لا يخالف اليوم أحد على أن هذا الكون له بداية، حتى جمهور الملاحدة.
يقول الفيزيائي اللاديني، ستيفن هاوكينغ: “مع تراكم الدليل التجريبي والنظري، أصبح من الواضح أكثر وأكثر أن الكون لابد له من بداية في الزمان، حتى تمت البرهنة على ذلك نهائيا في عام 1970 بواسطة بِنروز وإياي”.
إذن، فالعلم التجريبي الحديث قد وقف هذه المَرَّة مع الدِّين لا مع الإلحاد، ووافق تصورات علماء الإسلام خصوصا والديانات (الإبراهيمية) عموماً، التي ترى أن لهذا الكون بداية، يقول الفيزيائي آرثر إيدجنتون على لسان العلماء الملاحدة: “إن فكرة بداية الكون، أمر بغيض بالنسبة لي”. ويمكننا عزو هذا البغض والاشمئزاز إلى اللوازم اللاهوتية التي ينبني عليها هذا الحدوث الكوني، بتعبير ستيفن هاوكينغ: ينزعج البعض من فكرة حدوث الكون، لأن فيها مجالا لتدخُّلٍ إلهي.
لكنه العلم التجريبي الذي يمارسه عدد منهم، هو من قال كلمته هذه المرة، فهو المنهج الطبيعي الذي ظلت طائفة منهم تبجِّله وتُروِّضه ضدَّ الدين، قد تنكر لهم وقام بغرس سكين في خاصرتهم هذه المرة، يُذكِّرني هذا بقول فرانسيس كولينز: لقد تسلق العلماء جبالاً من التنقيب، فلما وصلوا إلى الصخرة الأخيرة باتِّجاه القمّة، وجدوا المتديِّنين جالسين هناك منذ قرون.