تعد الثقوب السوداء من الأمور الغامضة التي طالما حيرت العلماء؛ فهي تقبع هناك مستترةً في الظلام، لا ينبعث منها ضوء، ولا تطلق أي شعاع يمكن اكتشافه، لذلك لا يمكننا رؤيتُها، ويتحتم علينا أن نقيس خصائصها بناءً على تأثيرها في الأشياء من حولها.
هذا ما يجعل من العثور عليها أمرًا صعبًا، ولكن لها نقطة ضعف: إنها أكولة على نحو فوضوي للغاية، ولعل نقطة الضعف هذه ستكون بوابتنا للعثور على “الحلقة المفقودة” في الثقوب السوداء متوسطة الكتلة.
فمع أننا وجدنا ثقوبًا سوداء ذات كتلة نجمية صغيرة جدًّا (تصل إلى 100 ضعف كتلة الشمس)، وثقوبًا سوداء هائلة الكتلة (أكثر من 100000 ضعف كتلة الشمس).. إلا أن الثقوب السوداء متوسطة الكتلة كانت هي الأشد غموضًا، وأثبتت أنها صعبة المنال إلى أبعد الحدود.
صحيح أن لدينا إشارات على وجود ثقوب سوداء متوسطة الكتلة، ولكن لا يوجد شيء قاطع؛ هذه الدراسة الجديدة التي نحن بصددها اليوم هي أفضل دليل حتى الآن.
يتوقف هذا الدليل على توهج قوي للأشعة السينية يدعى 3XMM J215022.4−055108 (أو J2150−0551 اختصارًا)، لوحظ للمرة الأولى عام 2006، مع أنه كان مستمرًا قبل ذلك بثلاث سنوات، ولقد اكتُشِف بواسطة تلسكوبين فضائيين قويين للأشعة السينية، هما: مرصد تشاندرا (Chandra) للأشعة السينية التابع لوكالة ناسا، وبعثة نيوتن المتعددة المرايا للأشعة السينية التابعة لوكالة الفضاء الأوربية (XMM-Newton).
في عام 2018 نشر الفيزيائي والفلكي داتشنغ لين (Dacheng Lin) من جامعة نيو هامبشاير (New Hampshire) هو وزملاؤه دراسةً تستند إلى مشاهدات من هذه التلسكوبات، واستنتجوا أن هذا التوهج كان على الأرجح هو الإشعاعَ المندفع أثناء التهام ثقب أسود متوسط الكتلة لنجم.
كما حصل لين وفريقه الآن على مشاهدات جديدة متعددة الأطوال الموجية من تلسكوب XMM-نيوتن وتلسكوب هابل الفضائي، وقاموا بتحليلها، وأصبحوا متأكدين أكثر من أي وقت مضى من أن هذا هو سبب التوهج.
قال لين: “الثقوب السوداء متوسطة الكتلة هي أجسام يصعب إيجادها، ولذلك من المهم البحث بعناية، واستبعاد التفسيرات البديلة لكل مرشح”.
إحدى الأشياء الغريبة المتعلقة بالتوهج J2150−0551 كانت موقعَه، فهو ليس في وسط المجرة، حيث توجد عادة ثقوب سوداء كبيرة تمزق النجوم، بل يبدو أنه يأتي من عنقود نجمي يقع في أطراف مجرة عدسية تبعد 800 مليون سنة ضوئية، وهذا يتفق مع أحد نماذج التشكل للثقوب السوداء متوسطة الكتلة، والتي تفسّر أيضًا سبب صعوبة العثور عليها.
وقد اقترحت دراسة عام 2004 أن جاذبية عنقود نجمي كثيف يمكن أن تتسبب في سقوط النجوم الموجودة فيه باتجاه مركز العنقود، مشكِّلةً نجمًا يعادل آلاف الشموس بضخامته، ثم ينهار هذا النجم تحت ثقل وزنه، مشكِّلًا ثقبًا أسود متوسط الكتلة.
ولكن نظرًا إلى أن من الصعب جدًّا تبيُّن النجوم الفردية خارج مجرة درب التبانة -فضلًا عن تعقُّب مداراتها- فالثقوب السوداء خارج مجرة درب التبانة لا يمكن اكتشافها إلا عندما تسقط فيها مواد مثل نجمة أو سحابة غازية.
لكن في الوقت الذي تكون فيه إحدى هذه العناقيد النجمية قد أحدثت ثقبًا أسود.. ستكون قد نظّفت المنطقةَ الواقعة في نطاق جاذبيتها، وهذا يعني عدم بقاء أية مادة في جوارها لتلتهمها، باستثناء نجم شارد عابر، وهذا نادر، وهو ما تسببب بالتوهج J2150−0551 وفقًا لاعتقاد علماء الفلك.
وكان لا يزال ثمة احتمال في أن يكون التوهج J2150−0551 شيئًا آخر: كأن يكون نجمًا نيوترونيًّا داخل مجرة درب التبانة، برد بعد تسخينه أثناء انفجار تراكمي، يلتهم موادًّا من نجم ثانٍ. لكن بعد إجراء مسح شامل للسماء لم يُكتشَف انفجارٌ تراكمي كبير بما يكفي للتسبب بهذا التسخين في نجم نيوتروني.
رغم ذلك كنا بحاجة إلى حكم نهائي، لذلك وُجِّه تلسكوب هابل إلى البقعة التي شوهد فيها التوهج J2150−0551، للحصول على تصوير عميق عالي الدقة، بغية التأكد من موقعه.
وقد أكدت هذه المشاهدات أن توهج الأشعة السينية لم ينبعث من مجرة درب التبانة، بل من العنقود النجمي الذي يبعد 800 مليون سنة ضوئية، وفي هذه الأثناء حصل تلسكوب XMM-نيوتن على المزيد من مشاهدات الأشعة السينية.
قالت الفلكية ناتالي ويب من جامعة تولوز في فرنسا: “سمحت لنا إضافة المزيد من مشاهدات الأشعة السينية بفهمِ إجمالي إنتاج الطاقة، وهذا يساعدنا على فهم نوع النجم الذي مزقه الثقب الأسود”.
خَلَص الباحثون نتيجة هذه المشاهدات إلى أن التوهج نتج عن ثقب أسود متوسط الكتلة أثناء التقاطه وتمزيقه نجمًا صغيرًا من نجوم النسق الأساسي، يبلغ تقريبًا ثلث كتلة شمسنا، ونحو 40 بالمائة من حجمها.
ووجدوا أيضًا أن العنقود النجمي نفسه يمكن أن يكون مركز مجرة قزمة مجردة من معظم موادها؛ نتيجةً لتفاعلات الجاذبية مع المجرة الأكبر التي تحدّها.
والأهم من ذلك أن النتيجة تؤكد من جديد أن العناقيد النجمية التي تدور حول مجرات أضخم.. يمكن أن تكون موقعًا رئيسيًا للعثور على هذه الثقوب السوداء المتوسطة الكتلة المحيرة.
نُشر البحث في مجلة The Astrophysical Journal Letters.
المصدر :
https://www.sciencealert.com/we-might-have-just-found-a-missing-link-black-hole-when-it-ate-a-star