تميزت مدينة بغداد قبل 1200 عام بأصالة الثقافة والمثقفين فيها، وذلك عندما كانت العاصمةَ المزدهرة للعالَم الإسلامي لمدة تجاوزت 500 عام، وكانت خلال عهود بعض خلفائها (الرشيد والمأمون والمعتضد والمكتفي) واحدةً من أكبر مدن العالم وأغناها، إن لم تكن هي الأكبر والأغنى في ذلك الوقت، فقد كان لها -لمدة تزيد على قرنين- من الثروات ما تجاوز المال، فقد كانت المهد لـ (بيت الحكمة)، وهي أكاديميةٌ للمعرفة والعلوم، جذبت النوابغ من كل حدبٍ و صوب، في كل العلوم: من الرياضيات، إلى الفلك، إلى علم الحيوان… كانت هذه الأكاديمية مركزًا رئيسًا للبحث والفكر والمناقشة في الحضارة الإسلامية.
دعونا نعيد اكتشاف بعض التاريخ المرتبط بالمركز الفكري للمعرفة.
لقد اهتم أكثر خلفاء بغداد شهرةً (من بينهم الرشيد والمأمون) اهتمامًا شخصيًّا بجمع الأعمال العلمية العالمية الرائدة، وفضلًا عن ذلك اهتموا بجمع الكتب من الشرق والغرب، وقد جمعوا العلماءَ من أقصى بقاع الأرض المسلمة ليكوّنوا واحدة من أعظم الأكاديميات العلمية في التاريخ.
بُنِيَ بيت الحكمة على يد الخليفة هارون الرشيد (الذي حكم بين عامي 170 – 193هـ، 786 – 809م) ليكون مكتبة رائعة سميت: (خزينة الحكمة)، وضمت هذه المكتبة مخطوطات وكتبًا جمعها والده وجده، في مواضيع شتى من الفنون والعلوم في مختلف اللغات.
بعد ثلاثة عقود، نمت المجموعات نموًّا واسعًا في عهد ابنه الخليفة المأمون، الذي بنى ملحقًا بالبناء الأصلي، وأطلق عليه اسم: (بيت الحكمة)، الذي حوى فروع العلوم المتنوعة، كما أضاف بعد ذلك العديد من مراكز الدراسة، لتمكين أكبر عدد من العلماء من مواصلة بحثهم، وبنى مرصدًا فلكيًّا عام 214هـ 829م.
كان بيت الحكمة مكانًا يجتمع فيه كل يوم المترجمون، والعلماء، والمؤلفون، ورجال الأدب، والكتّاب، والنُّسّاخ.. وذلك للترجمة، والقراءة، والكتابة، والنسخ، والمناقشة والحوار… وتُرجِمت فيه العديد من الكتب والمخطوطات، في مختلف المواضيع العلمية والمبادئ الفلسفية والأفكار، عن مختلف اللغات.
كان الناس من جميع أنحاء العالم الإسلامي، من كِلا الجنسين، ومن مختلف الأديان والأعراق.. يتوافدون إلى بيت الحكمة، وكان الكندي من الأسماء البارزة في هذه الأكاديمية، وهو الذي كُلِّف بترجمة أعمال أرسطو (Aristotle)،
وهذا ما ألحق ضرراً بالعلوم الدينية وعقائد المسلمين بسبب الإفراط بالانبهار في علوم الفلسفة وكتابها.
وكذلك كان حنين بن إسحاق، وهو الذي ترجم أعمال أبو قراط (Hippocrates).
ارتبطت بعض الأسماء ببيت الحكمة، من بينها بني موسى بن شاكر (علماء فلك)، ويحيى بن أبي منصور، والمأمون (عالم الفلك)، ومحمد بن موسى الخوارزمي، و سعيد بن هارون الكاتب (ناسخ)، وحنين بن إسحاق البادي، وابنه إسحاق، وثابت بن قره، وعمر بن فرقان الطيبار.
وفي بيت الحكمة كان يُحكى ويُقرأ بمجموعة كبيرةٍ من اللغات، بما فيها: العربية، والفارسية، والآرامية، والعبرية، والسريانية، وإلاغريقية، واللاتينية.
عمل المختصون في بيت الحكمة على ترجمة المكتوبات القديمة إلى العربية، للسماح للعلماء بفهمها، لمناقشتها وتطويرها، وكان يوحنا بن البطريق الترجمان (Youhanna bin Al-Batriq Al-Turjuman) من أشهر المترجمين، ومنهم المترجم يونان بن البطريرك (the Translator Jonah son of the Patriarch) الذي ترجم كتاب الحيوانات (كتاب الحيوان) الذي كتبه أرسطو، وأيضًا حنين بن إسحاق.
ويقال: إن الخليفة المأمون قد شجع المترجمين والعلماء ليضيفوا للمكتبة في بيت الحكمة، بالدفع لهم بمقدار وزن كل كتاب مكتمل ذهبًا.
وقد ترددت أصداء نقل المعرفة الناجعة في بغداد.. في العديد من المدن في الحضارة الإسلامية، فبُنِيَت دار الحكمة في القاهرة عام (395هـ 1005م)، على يد الحاكم بأمر الله الفاطمي، واستمرت 165 عامًا على الرغم من اختلاف دولته عقائدياً مع المسلمين.
كما أنشأت مدنٌ أخرى في المقاطعات الشرقية من العالم الإسلامي دورًا للعلوم -أو بيوتًا للمعرفة- في القرنين التاسع والعاشر ميلادي لمحاكاة بغداد.
وبعد ذلك في القرن الثاني عشر أصبحت طليطلة Toledo في الأندلس (عندما كانت إسبانيا تابعة للحكم الإسلامي) مركزًا موسعًا مهمًّا للترجمة من العربية إلى اللاتينية، أظهرت للنور نصوصًا إغريقية قديمة، وأعمالًا عربية مهمة، وتوافد علماء نصارى ومسلمون ويهود إلى المدن لترجمة المعاهدات العربية والإغريقية القديمة إلى اللاتينية، ثم إلى اللغات الأوروبية.
يقول الدكتور صبحي الغزاوي (Dr Subhi Al-Azzawi)، المهندس المعماري البارز: “يقال لبيت الحكمة أيضًا: مكتبة الحكمة (خزانة الحكمة)، ولدار الحكمة الخاصة بالمأمون (خزانة دار الكتب المأمونية)، ويجب أن يشار إلى أن المصطلح العربي (خزانة الكتب) يعني حرفيًّا متجر الكتب، و هو اسمٌ قديم يعني اليوم: مكتبة”.
ويقول الدكتور جيم الخليلي (Prof Jim al-Khalili)، الأستاذ في الفيزياء: “كانت الإمبراطورية العربية ذات قوة كبيرة في أواخر القرن الثامن وأوائل القرن التاسع، كان يجبي حكامُها الضرائب من جميع أصقاع الإمبراطورية، وكان لديهم مال لينفقوه على الترجمات ورعاية العلماء، وفي هذا الوقت تقريبًا أُنشِئ بيت الحكمة في بغداد على يد الخليفة العباسي المأمون، بدأ دارًا لترجمة النصوص الإغريقية إلى العربية، وبسرعة بدأ بلفت أنظار أعظم النوابغ في العالم العربي، بينما أصبحت اللغة العربية اللغة العالمية للعلوم، وكان ثمة تأثير جلي لأهل بلاد فارس أيضًا. قال أحد العلماء العرب ذات مرة: (نحن العرب نمتلك كل الكلمات، لكن أنتم أيها الفرس لديكم الأفكار)، بهذا النص شاع مفهوم خاطئ: أن العالم الإسلامي لم يكن بأكثر من مشرف على العلم الإغريقي، والحق أن العلماء العرب أنشؤوا عددًا لا يصدق من العلوم المهمة والأصيلة، وكانوا أول من نهض بعلم حقيقي (مؤسس على نظريات وتجارب) قبل مئات السنين من الثورة العلمية في أوروبا”.
ويقول الدكتور فاروق أحمد خان (Prof Faroque Ahmad Khan)، الأستاذ في الطب (الفصول اللاحقة من كتاب مايكل هاميلتون مورغان التاريخ المفقود): “الإرث الدائم للعلماء المسلمين سلط الضوء على إنجازات في بغداد أثناء حكم الخليفة العباسي المأمون من 813 حتى 833 ميلادي، والذي قاد بغداد لتصبح جوهرة العصر الذهبي للعرب، ففيها بيت الحكمة للخليفة المأمون، حيث إن المترجمين الأجانب والمسيحين نقلوا كلًّا من الإغريقية، والرومانية، والبيزنطية، والفارسية، والكلاسيكيات، والهندوسية، إلى اللغة العربية، والتي ساعدت على وضع أساس الرياضيات الحديثة، بالإضافة علم الفلك، وأسماء النجوم، وتركيب الصبغات والعقاقير، وكانت حاضنة للفلسفة والأدب، ففي بغداد أخبرت شهرزاد ألف قصة وقصة (المعروفة بألف ليلة وليلة)”
جوناثن ليونز (Jonathan Lyons) تروي قصة بيت الحكمة، والخلفاء الذين دعموه، والناس الذين عملوا هناك بسرعة فائقة، حيث نجد العلماء أمثال: الخوارزمي: مؤسس الجبر والمسلم البارز، والجغرافي المسعودي: الذي وصف الطرق البحرية الأساسية لبلاد فارس وكمبوديا، وما يتعلق بشبه الجزيرة المالاوية، في كتاب (طرق الممالك)، والكندي: الفيلسوف العربي الأول.
لكن ليونز اهتمت أكثر بما كان يحدث في بغداد والمدن المسلمة.. إلى أوروبا، لذلك ركزت على أبرز مجموعة من المترجمين والعلماء الذين هاجروا إلى العالم الإسلامي لينهلوا من معرفته و يعيدوا معهم اكتشافاتهم.
أسس الخليفة العباسي هارون الرشيد بيت الحكمة في بغداد في عهده (بين عامي 170 – 193هـ، 786 – 809م)، فكان مركزًا للبحث والتعليم، حيث برز علماء بارزون من مختلِف المجالات لتبادل معارفهم، وكان بيت الحكمة أكبر مستودع للكتب في العالم كله بالفعل، وذلك بحلول منتصف القرن التاسع، وكان المركز الرائد لدراسة الرياضيات والفلك والطب والكيمياء وعلم الحيوان والجغرافيا ورسم الخرائط. لسوء الحظ دمر المغول بيت الحكمة عندما هاجموا بغداد عام (658هـ 1258م).
المصدر :
https://muslimheritage.com/house-of-wisdom/