بين التطور و العقل :
هل التطور قادر علي إنتاج العقل وصفاته؟ وهل يمكن الوثوق في عقل ناتج من هذه العملية؟
القول بأن التطور الدارويني يمكنه أن ينتجَ عقلاٌ ذكيًا، يبحث عن الحقيقة ويدركها ويفهمها ويمكن الوثوق فيه وفي نتائجه، وهذا عبر سلسلة من التغييرات العشوائية (التي هي عبارة أخطاء) وعملية الانتخاب الطبيعي التي تنتخب الأصلح للبقاء، أمر من أسخف ما نتج عن هذه النظرية المادية الإلحادية، حتى أن داروين نفسه أدرك هذا وقال في رسالته الى William Graham في 3 من يونيو عام 1881:
“But then with me the horrid doubt always arises whether the convictions of man’s mind, which has been developed from the mind of the lower animals, are of any value or at all trustworthy. Would any one trust in the convictions of a monkey’s mind, if there are any convictions in such a mind?”
“لكن هناك الشك المخيف الذي دائما ينشأ داخلي حول ما إذا كانت قناعات عقل الإنسان، الذي تطور من عقل حيوانات أدنى، له أي جدارة في أن يوثق به. هل سيثق أحد في قناعات عقل ق_رد، هذا إذا وجدت هناك أي قناعات في مثل هذا العقل؟”
القول بأن التطور أصاب جهازاً مثل العقل بدون أن يهدف إلى ذلك، أي عبر بحث أعمى وغير موجه بحد ذاته وعلى وجهه قول سخيف جدا (من باب تعقيد العقل وتنسيقه…الخ)، فما بالك بالقول إنه أنتج أشياء من الواضح والجلي أنها مجرد كماليات، أي أنها موجودة لغاية مختلفة تماما، ولا علاقة لها تماما بالبقاء للأصلح وبترك أكبر عدد من الأولاد وتمرير الجينات! فما الفائدة التي يجنيها التطور (بعُملَة الصلاحية وترك أكبر عدد من الاولاد) أصلا من عقل يفكر في كيف بدأ الكون؟ ما الذي يجنيه من عقل يفكر ويطرح أسئلة مثل من أنا؟ كيف أتيت إلى هنا ولماذا؟ ما الذي يجنيه من إنتاج عقل يعي أنه موجود؟ ماذا يجني من عقل يفكر بطريقة تجريدية؟ ماذا يجني من عقل يمكنه فهم كيف يتشكل الثقب الأسود؟ ماذا يجني من عقل يمكنه حل معادلات من الدرجة الثالثة؟ ماذا يجني من عقل يمكنه حل المعادلات التفاضلية؟ الخ…. الخ والقائمة تطول!
القول بأن المنافسة الشرسة يمكنها أن تُحَصِّلَ عقلا يبحث عن الحقيقة ويدركها قول يعاني من نفس المشاكل التي يعاني منها المثال الآتي في “تحصيل المعرفة والفهم”:
تخيل أن هناك قسم من الطلاب يدرسون مادة تعتمد على الحفظ بالدرجة الأولى للنجاح فيها، في مناخ منافسة عدواني جدا وحِمْل دراسي كبير جدا ونظام تقييم صارم جدا فلا ينجح إلا من يُحَصِل أكبر علامة ممكنة!! هؤلاء الطلاب همّهم الوحيد هو العلامة، فتجدهم يُضَحُون “بالعلم الصحيح والفهم” من أجل العلامة، الناجحون والمتخرجون من هذا القسم أبعد الأشخاص عن الفهم والعلم، سيكونون كالحواسيب مملوءة بالبيانات فقط وخاوية من أي معرفة وعلم ينتفع به!!
التطور الدارويني وقدرته على إنتاج عقل قادر علي إدراك الحقيقة وطرح الأسئلة والوجودية والتفكير التجريدي…. الخ. يشبه مثال القسم وطلبته في تحصيل العلم والفهم الصحيح! الأمران كلاهما عبارة عن نظام غير مصمم لإنتاج وتحصيل المطلوب منه، أي الحقيقة…الخ في حالة التطور والفهم والمعرفة في حالة القسم، هما نظامان عاجزان عن تحصيل المطلوب!
حتى ولو سلمنا بأن التطور الدارويني هو نظام قادر على إنتاج العقل بتعقيده وبصفاته فتبقى إشكالية أخيرة وهي الوثوق فيه!! فكيف تثق أن العشوائية والصدفية واللا غائية أنتجت عقلا يصيب الحق، أي أن ما يقوله لك له قيمة حقيقية ويطابق الواقع؟
التطور في الحقيقة يواجه مشكلة فلسفية عويصة هنا، فلو صح التطور لما كنا قادرين على معرفة وإدراك أنه حصل من الأساس! أي أن القبول بالتطور يؤدي بالمرء إلى الشك في عقله وصحت نتائجه! ومن ضمنها تطوره! ويصبح الأمر يشبه “تجربة الكوجيطو” لديكارت حيث أنك لو شككت في عقلك فستشك في شكك أيضا! والشك في الشك تناقض! فيصبح التصديق بأن التطور صحيح وأنه يعكس الحقيقة التاريخية مصدر تشكيك في العقل وفي وجود حقيقة أصلا!
أي نظرية تؤدي إلى نقض أحد أسسها هي نظرية غير متسقة منطقيا، بكلام آخر هي “مجرد هراء” ويجب التخلص منها. الاساس الذي نقضته نظرية التطور هو الاساس الذي تبنى عليه كل نظرية علمية بل وتبنى عليه الفلسفة وكل معارف الإنسان: العقل.
—
بقلم: Amine Tali Mamar
تصميم وتدقيق: أبو عبادة الدمشقي