حجة صانع الساعات: صياغتها, نقدها و الرد عليه.
حجة صانع الساعات من وجهة نظر فلسفية و منطقية هي حجة قديمة جدا و من أكثر الحجج إستخداما للإستدلال علي وجود مصمم أو خالق للكون و للحياة. إشتهرت هذه الحجة القديمة بإسم “حجة صانع الساعات” بسبب الفيلسوف و القس النصراني “ويليام بالي” الذي إستخدم الساعة كمثال في الإستدلال علي وجود مصمم ذكي عبر تشبيهه للكائنات الحية بالساعات وهذا كان في كتابه:
“Natural Theology or Evidences of the Existence and Attributes of the Deity”
شهرة هذه الحجة و كثرة إستخدامها منذ القديم, من المرجح أنَّ سببه هو “نكهتها الفطرية” حيث أنها تعتمد علي منطق بسيط و شائع جدا و كثير الإستخدام في التفكير البشري ألا و هو منطق “القياس” أو “التفكير التناظري”
“Analogical reasoning”. (1).
الحجج المبنية علي هذا المنطق عامة و حجة صانع الساعات خاصة تتم صياغتها بإستخدام القالب المنطقي التالي:
المقدمات
1 – هناك نظام “أ” يمتلك مجموعة من الصفات “ص”.
2 – مجموعة الصفات “ص” هي نتاج السبب “س”.
3 – هناك نظام “ب” يمتلك مجموعة من الصفات “ص*”.
4 – مجموعة الصفات “ص” و “ص*” متشابهة جدا (أو متطابقة).
النتيجة:
مجموعة الصفات “ص*” الموجودة في نظام “ب” سبب وجودها هو “س”.
حجج القياس, تنتمي إلي مجموعة أخرى من الحجج المسمات “ampliative arguments” او “الحجج التفاقمية”, (1) ببساطة ما نعنيه من هذا, هو أن النتائج المتوصل إليها عبر هذه الحجج ليست نتائج قطعية, و إنما إحتمالية أو ترجيحية أي بكلمات أخرى, صحة المقدمات لا تستلزم صحة النتائج عقلا أو وجوبا.
أي أنه في حالة القياس, درجة صحة النتيجة (أو درجة ثقتنا بصحة النتيجة) تزاد كلما زاد عدد الصفات المتشابهة أو زادة درجة التشابه بينها (أقصى حد هو التطابق التام), خاصة في الصفات التي لها علاقة مباشرة بين الأنظمة المقارنة.
يمكن صياغة حجة صانع الساعات كما يلي:
1 – الساعة نظام يتصف بصفات عديدة مثل :
– التعقيد :أي وجود عدة قطع مكونة للنظام.
– التنسيق : هذه القطع متناسقة مع بعضها البعض.
– إمتلاك وظيفة: الساعة لها وظيفة خاصة و هي الحفاظ علي الوقت.
– النظام : مجموعة القطع و كيف تعمل مع بعضها البعض منظمة و تتبع خطة ثابتة و تكرارية.
إلخ من الصفات.
2 – الساعة تتصف بهذه الصفات بسبب وجود صانع ساعات ذكي.
3 – الكائنات الحية لها مجموعة من الصفات مثل:
– التعقيد.
– التنسيق.
– إمتلاك وظائف.
– النظام.
الخ من الصفات.
النتيجة:
الكائنات الحية تتصف بصفاتها لأن هناك صانع ذكي هو سبب وجودها.
حجة صانع الساعات تعرضت للنقد من قبل الفلاسفة و تم الدفاع عنها أيضا من قبل الفلاسفة. أهم الإنتقادات صدرة من قبل الفيلسوف الشهير “دايفيد هيوم”.
إعتراضات “هيوم” كانت مبنية علي حقيقة أن الكائنات الحية لا تتشارك مع تصميمات الإنسان (مثلا الساعة) في كل الصفات, فالكائنات الحية مكونة من مادة عضوية تتغذى و تنموا و تتكاثر و تتنافس وتُوَّرِثْ صفاتها و تتطفر (تتغير فالأبناء ليسوا مطابقين لابائهم)..الخ.
هذه الإختلافات في نظر هيوم تبطل نتيجة الحجة, التي تقول بوجود صانع ذكي كسبب وراء وجود صفات الكائنات الحية.
هيوم قدم إعتراضاته في وقت كانت فيه معظم البيولوجيا لا تزال صندوقا أسواد عند العلماء, و كانت العديد من الأفكار الغريبة و الخرافات حول الحياة قائمة (مثلا التوالد التلقائي للكائنات). هيوم لم يقدم سببا و جيها أو منطقي لآلية أو كيفية تأثير الإختلافات بين صناعات الإنسان (مثل الساعة) و الكائنات الحية علي الحجة وكيف ستبطلها! هو فقط رأى أن الكائنات الحية تختلف أكثر من ما تتشابه مع صناعات الإنسان و هذا بالنسبة له كفيل بإبطال الحجة!
إنتقاد هيوم حقيقة أنتقاد سخيف من عدة أوجه, هذا لأن قوة الحجة ليست في عدد الإختلافات و التشابهات, بل في نوعية هذه الأختلافات و التشابهات و في وجود أسباب منطقية عقلية تربط وجود هذه الإختلافات ببطلان الحجة (أي وجود وجه إستدلال صحيح) فمثلا, كيف تُبطِل حقيقة أن الكائنات تنموا و تتكاثر بينما الساعات لا, نتيجة الحجة ألا و هي “هناك مصمم ذكي لصفات الكائنات الحية”؟؟
الأمر يشبه الإعتراض علي تطبيق حجة صانع الساعات , للإستدلال علي وجود مصمم ذكي للهاتف النقال عبر إستخدام الطائرة كنموذج قياس, و هذا عبر القول أن الطائرة تختلف عن الهاتف النقال كثيرا! فالهاتف لا يمتلك أجنحة و محركات و عجلات و و و ..الخ فتقوم فقط بتعديد الإختلافات مهما كانت نوعيتها و تقول الحجة باطلة!!
الإشكال في إعتراضك هنا هو أن هذه الإختلافات ليست مهمة و لا تمت للنتيجة بصلة أبدا! فوجود أجنحة للطائرة و عدم وجودها في الهاتف لا يأثر في الحجة مثقال ذرة !! فالإشارة إلي الإختلافات و تعديدها دون تقديم وجه الإستدلال المنطقي هو نقد باطل, في نظري هيوم كان يحاول عدم الفهم, ربما لشيء في نفسه.
مع سخافته الواضحة, إنتقاد هيوم لا يزال يستخدم إلي يومنا هذا, لكن الأن إنتقاد هيوم تطور, فالبيولوجيا لم تبقى صندوق أسود كما كانت في وقته, و هيوم ولد و مات قبل ظهور داروين و نظريته.
داروين و من تبعه من بعده قدموا لنا ما يظنون أنه السبب المنطقي العقلي الذي يبطل حجة صانع الساعات, أي انهم قدموا وجه الإستدلال الذي كان ينقص هيوم في نقده, فوضحوا أن الإختلافات التي أشار اليها هيوم هي بضبط ما يجعل الحجة لا تصلح! هذا لأن هذه الصفات تسمح بحدوث عملية لا يمكن أن تحدث في صناعات الإنسان (مثل الساعة) ألا و هي “التطور الدارويني”.
فمن شروط حدوث التطور الدارويني وجود عملية نسخ ذاتية و عملية وراثة للصفات المنسوخة و عملية تغير من الأباء الي الابناء و وجود تنافس.
للرد علي إعتراض هيوم المتمثل في وجود إختلافات و علي إستخدام التطوريين لهذه الإختلافات في صياغة وجه إستدلال لنقد الحجة, سنقوم بتوسيع مثال “الساعة” عبر تقديم أمثلة.
الآن, تخيل أنك تسير في الغابة و تحت إحدى الأشجار وجدت ساعة! من أول وهلة, تبدوا لك ساعة عادية, لكن هذه الساعة ليست ككل الساعات! فبعد أن فككت هذه الساعة وجدت أنها تحمل داخلها مصنع مصغر!! يقوم هذا المصنع بتركيب ساعات صغيرة فقط من المواد الأولية الموجود طبيعيا في وسطه! أي ان هذه الساعة يجب أن تمتلك كل الأنظمة اللازمة و المكافئة في تعقيدها لما يمتلكه الإنسان الذكي في عملية تصميمه و تصنيعه للساعات! أي أنها يجب أن تمتلك الأنظمة الوظيفية اللازمة و المعقدة جدا التي تسمح لها بتحديد و معرفة ما هي المواد الأولية التي تحتاجها لصناعة الساعات, ثم يجب أن تمتلك أيضا الأنظمة التي تسمح لها بجمع هذه المواد و بمعالجتها و أيضا تحتاج الأنظمة التي تسمح لها بتصنيع هذه المواد إلي القطع التي تحتاجها و أخيرا يجب أن تمتلك نظام تركيب آلي و مبرمج يقوم بتركيب هذه القطع إلي ساعات تشبهها!!
ليس هذا كل شيء!! فالساعات الصغيرة المُنْتجَة من قبل هذه الساعة (نسلها) تقوم بالنمو هي أيضا عبر إستغلالها للمواد الاولية الطبيعية لتصنيع قطعها هي إيضا حتى تصل الي مرحلة القدرة علي تصنيع ساعات صغيرة كاملة (أي تصل إلي مرحلة البلوغ و النضج)!!
في بعض الاحيان هذه الساعات قد تخطئ في عملية تكاثرها فتصنع ساعات صغيرة تحتوي علي تغيرات طفيفة في أَحدِ قطعها عن ما هو موجود في أبائها او تقوم بتصنيع ساعات تحمل اعطاب مختلفة!! و هذه التغيرات يمكن توريثها!!
هذه الساعات الصغيرة تتنافس (هذا طبيعي بسبب محدودية الموارد) علي المواد الأولية الموجودة في اوساطها!!
الآن فكر معي, هل الإختلافات المذكورة فوق, بين هذا النوع من الساعات والساعات العادية يقدح بأي شكل من الأشكال في صحة نتيجة حجة صانع الساعات التي تقول أن مصمم ذكي هو سبب وجود هذا النوع (المتخيل) من الساعات, لو إستخدمنا الساعة العادية كنموذج للقياس و الاستدلال علي وجود مصمم ذكي لهذا النوع؟؟
في الحقيقة الاختلاف بين الساعة العادية والساعة المتخيلة في العديد من الخصائص لا يقدح في حجة صانع الساعات بتاتا بل يجعلها أكثر قوة!! هذا بسبب أن هذه الساعات أكثر تعقيدا بكثييير من أي ساعة عادية!! هذه الساعات عبارة عن تحفة فنية مذهلة!!
لو كان سبب قولنا بأن الساعة العادية تحتاج مصمم ذكي هو تعقيد الساعة الوظيفي و غائيتها!! فإن قولنا بأن النوع المتخيل في المثال فوق, و الذي يعتبر أكثر تعقيدا يحتاج مصمم ذكي, سيكون أولى و أكثر صحة!!!
الساعة التي تخيلناها لها الكثير من خصائص الكائنات الحية (تنمو..تتكاثر…تتغير…تتنافس..الخ!)
البعض قد يقول هذه الساعة المتخيلة تتوفر فيها كل شروط التطور الدارويني! إذا لزوم وجود مصمم لا يصح!!
وجود التطور الدارويني كظاهرة طبيعية تنتج من وجود أنظمة تتوفر فيها الشروط المذكورة آنفا لا يقدح في صحة حجة صانع الساعات بتاتا! فحجة صانع الساعات حجة حول الأسباب و ليس حول الآليات. تذكر أن النتيجة التي وصلنا إليها من الحجة هي “وجود صانع ذكي كسبب وراء وجود الحياة” و ليس ” كيف صنع الصانع الذكي الحياة”.
إذا يمكننا القول بأن حجة صانع الساعات :
– لا تنفي و لا تثبت أن التطور الدارويني كآلية للخلق و التصميم خاطئ و لا يصح!
– تقدم سبب قوي في الإعتقاد بوجود مصمم ذكي وراء الحياة, حتى مع صحة التطور الدارويني كآلية للخلق.
يمكن للتطوريين القول أن الحجة كما صيغت فوق لا تنفي قدرة التطور الدارويني علي أن يكون سببا وراء صفات الحياة. أي يقال أن التطور الدارويني بدون ذكاء و بإعتباره تجسيد للعشوائية و الصدفوية و اللاغائية..الخ من صفات غياب الذكاء لا ينتفى بصحة الحجة.
هذا الإدعاء سيستلزم منا الإعتقاد بشيء غريب جدا, و هو أن أي عملية طبيعية غير ذكية – أي تتصف يالعشوائية و الصدفوية و اللاغائية…الخ – عاجزة عجزا تاما علي أن تكون سببا وراء وجود نظام بسيط نسبيا مثل الساعة, ولكن, وبعد إضافت صفات جديدة لهذا النظام البسيط نسبيا و التي تجعله منه نظام أكثر تعقيدا, فإن العشوائية و الصدفوية و اللاغائية….الخ (هذه المرة تحت صورة التطور الدارويني و الذي يعتبر عملية طبيعية غير ذكية) تصبح قادرة علي أن تكون سببا في وجود هذا النظام الأعقد بكثير من النظام الأول!!!
كيف يمكننا تفسير هذا الانعكاس؟؟ ما هو حل هذه المفارقة؟
حل المفارقة المذكورة فوق بسيط جدا, نقوم فقط بالتخلص من الإيمان المادي الأعمى بأن التطور الدارويني (إن صح) يفتقر للذكاء!! التطور الدارويني (إن صح) هو عملية ذكية بل و ذكية جدا جدا! حجة صانع الساعات تبين و بقوة أنه ذكي. المفارقة المذكورة فوق توضح لنا كيف أن حجة صانع الساعات تثبت لنا أن التطور الدارويني لا يمكن أن يكون تجسيدا للعشوائية و الصدفوية و اللاغائية…الخ من صفات غياب الذكاء. هذه مجرد طريقة أخرى للقول أن التطور الدارويني هو تجسيد للذكاء!
إذا حجة صانع الساعات تقدم لنا سبب منطقي قوي للإعتقاد بأن التطور الدارويني (لو حدث) هو عملية ذكية و مصممة بغائية لإنتاج الكائنات الحية.
التفريق بين “كيف” تم التصميم (الآلية) و “لماذا” يوجود التصميم (السبب) أمر مهم جدا و أساسي في نقاش الملاحدة حول موضوع التطور.
فالخلط بين هاذين المفهومين يجعل معظم التطورين الملحدين لا يفقهون و لا يفهمون حجة صانع الساعات جيدا! ويظنون أن إمكانية حدوث التطور الدارويني أو الدلائل علي حدوث التطور الدارويني و صحته تقدح في صحة الحجة شيأ!! و هي في الحقيقة أقصى ما ستحققه هو الإجابة علي السؤال “كيف” فقط و ليس “لماذا”! فأقصى ما سنعرفه من هذه الأدلة هو كيف صمم المصمم تصاميمه (الآلية) و لا تجيب عن السؤال “لماذا” هناك تصاميم أبدا (السبب).
إذا هذه الحجة لا تنفي التطور الموجه. التطور الموجه (بمعنى آلية الخلق) يحتاج حجج مختلفة.
إنتهى.
إعداد : Amine Tali Mamar
تصميم : غيث وليد.
مرجع:
(1) https://plato.stanford.edu/entries/reasoning-analogy/