من الحقائق التي لا يستطيع أحد إنكارها هي أن المتدينين بشكل عام كان لهم دور مهم في نشأة العلم وتطويره، إن لم يكن لهم كل الفضل في الواقع في ذلك، فعلي سبيل المثال في مقال أكاديمي منشور علي موقع جامعة سانت توماس الكندية يذكر الكاتب أن ”الإيمان المسيحي والروم الكاثوليك، وبعد ذلك البروتستانت، هم الذين أسسوا معظم الجامعات الكبرى في الغرب كجامعة هارفارد وجامعة برينستون وجامعة ييل وجامعة بنسلڨانيا وهذه حقيقة لا يستطيع أحد أن ينكرها“ [1] وفي مقال آخر علي مجلة نيتشر يذكر الكاتب أن ”الكنائس كانت الراعي الرسمي للبحث العلمي لقرون وأن العلم يدين بالكثير للمسيحية“ [2]، يذكر المؤرخ بيتر هاريسون أيضاً في مقال أكاديمي علي موقع جامعة أوكسفورد أن ”الأشخاص الذين أسسوا المجتمع الملكي البريطاني The Royal Society الذي يعتبر واحد من أكبر وأقدم المجتمعات العلمية الغربية في العالم (تم تأسيسه سنة 1660 بعد الميلاد) كانوا كلهم متدينين مسيحيين والعلماء الذين صنعوا الثورة العلمية الغربية عموماً كانوا أيضاً متدينين مسيحيين“ [3]، المجلات العلمية ودور نشر الجامعات المرموقة مثل دار نشر جامعة نيويورك، دار نشر جامعة أوكسفورد، دار نشر جامعة كامبريدج، دار نشر جامعة برينستون لا تخلو من الكتب والمقالات التي تشيد بعلماء الحضارة الإسلامية كإبن الهيثم والخوارزمي وإبن خلدون وجابر بن حيان وإبن سينا وإبن النفيس وأبو الريحان البيروني وغيرهم وتشيد بإسهاماتهم في المجالات العلمية المختلفة كالطب والهندسة والفلك والفنون والزراعة والكيمياء والرياضيات [4]،[5]،[6] وإختراعاتهم المتعددة التي غيرت مجري التاريخ وكانت أساس التقدم العلمي الذي يعيشه الغرب الآن [7]، ولا يمكن نسيان أن أول جامعة في العالم كانت في بداياتها مسجداً للعبادة وتم تأسيسها علي يد المسلمة فاطمة بنت محمد الفهري [8].
لكن قد يقول قائل أن الدين نفسه ما كان له فضل في أي من هذه الإسهامات والإنجازات هذه الإنجازات ما هي إلا إنعكاس لعقول وإجتهادات هؤلاء العلماء مع وجود الأموال التي ساعدهم علي بناء الجامعات والحضارات فبالرغم من أنهم كانوا متدينين إلا أن الفضل يعود للعقول والأموال وليس للأديان، لكن الحقيقة وكما تذكر العديد من المصادر الأكاديمية (جامعة شيكاغو، جامعة دورهام، جامعة أوكسفورد، جامعة كامبريدج) هي أن الأفكار الدينية التي تتشارك فيها معظم الأديان بشكل عام كان لها دور مهم في نشأة العلم نفسه [9]،[10]،[11]،[12] والحفاظ عليه [3]،[13]، وسأوضح كيف كان ذلك من خلال عرض أربع نقاط رئيسية مأخوذه من المصادر السابقة:
النقطة الأولي: التفكير الديني للعلماء في الماضي كان الدافع وراء نشاطهم العلمي.
من الناحية التاريخية غالباً ما يكون صعباً معرفة ما الذي يحفز أفراد معينين للقيام بالأنشطة التي يقومون بها، ولكن في بعض الأحيان يكون الأفراد صريحين تماماً بشأن ماهية الدوافع، ونحن نعرف هذه الدوافع لبعض الشخصيات الرئيسية في الثورة العلمية في القرن السابع عشر فقد كانت دوافعهم دينية، إليكم بعض الأمثلة:
– يوهانس كيبلر عالم فلك وهو شخصية رئيسية في تحديد الطبيعة الإهليجية لمدارات الكواكب وتوصل إلي ثلاثة قوانين لحركة الكواكب تم إختزالهم بعد ذلك في قانون نيوتن الوحيد للجاذبية العالمية، لذلك فقد كان شخصية محورية في الثورة العلمية وهذا ما يقوله بنفسه عن دوافعه ”كان يريد اولاً وقبل كل شيء أن يكون عالم لاهوت هذا كان هدفه الحقيقي لكنه رأي أنه يمكن إعتبار دراسة علم الفلك مماثلاً للإنشغال بدراسة العلم اللاهوتي فكلاهما عبادة للإله ووصف العلماء بأنهم كهنة الطبيعة“ فإنخراطه في العلم كان دافعه ديني.
– روبرت بويل يعرف بأنه أبو علم الكيمياء الحديث في الثورة العلمية الغربية وهو واضع قوانين الغازات التي يدرسها طلاب المدارس الإعدادية والثانوية وهذا ما يقوله بويل عن دوافعه الشخصية للإنخراط في العلوم ”إكتشاف كماليات الله المعروضة في المخلوقات هو عمل ديني أكثر قبولاً من تقديم الذبائح لله“ يمضي أيضاً ليقول ”أن التأمل العقلاني للطبيعة هو عبادة الله الفلسفية“ والغريب أن بويل إستخدم نفس العبارة التي إستخدمها كيبلر ووصف العلماء بأنهم كهنة الطبيعة.
– إسحاق نيوتن، من أكبر عباقرة الفيزياء والرياضيات، واضع قوانين الحركة الكلاسيكية، مكتشف الجاذبية، مخترع علم التفاضل والتكامل، مخترع أول تلسكوب، له إسهامات مختلفة في علم البصريات، وهذه دوافعه الشخصية للإنخراط في العلم ”مهمتي هي العمل مع هبات الله من الحواس والعقول لإستعادة المعرفة المفقودة عن الطبيعة“.
– علماء الحضارة الإسلامية الذين سبقوا الحضارة العلمية الغربية كانوا أيضاً مدفوعين بآيات القرآن الكريم التي تحض علي البحث في الطبيعة فإنخراطهم في العلوم كان بسبب وجود دافع ديني [14].
النقطة الثانية: إلإفتراضات التي يقوم عليها العلم الآن كان لها في الماضي أصولاً دينية.
كي يبدأ العلماء بممارسة العلم من الأساس يجب عليهم أولاً أن يفترضوا بعض الإفتراضات المسبقة مثل أن ”الكون عقلاني وقابل للفهم“ وفي الواقع هذه الإفتراضات تكون مجرد إيمان من قبل العلماء، فلم يقم أحد بتجربة وأثبت فيها أن الكون قابل للفهم لكن يجب أن يتم إفتراض ذلك مسبقاً حتي نتمكن من ممارسة العلم، بالتعبيرات العلمية الآن عندما نقول أن الكون عقلاني فنحن نقصد أن الكون يتبع قوانين ونظام محدد ونحن نسمي هذه القوانين ”قوانين الطبيعة“ ونسعي لإكتشافها كل يوم بواسطة ما نسميه ”العلم“، بعد القرن التاسع عشر بدأ العلماء يفترضون أن فكرة أن الكون عقلاني أي أنه يتبع قوانين ونظام محدد هي خاصية أساسية في الكون نفسه بمعني أن الكون هكذا لأنه هكذا وفقط لا نحتاج تفسير لسؤال ”لم الكون يبدو عقلاني“ لكن في الواقع إختراع فكرة أن الكون يتبع ”قوانين الطبيعة“ كان بسبب إيمان علماء القرن السابع عشر مثل نيوتن وديكارت بأن الكون – مخلوق بواسطة خالق مصمم صممه ليسير وفق هذه القوانين ونحن يجب أن نسعي لإكتشافها – فالإفتراض الأساسي الذي يقوم عليه أي علم الآن كان السبب فيه الإيمان الديني، الإيمان الديني هو ما إخترع فكرة ”قوانين الطبيعة“ التي تعتبر جوهرة العلوم، فقد تسبب في إعتقاد العلماء بأن هناك قوانين محددة يسير وفقها الكون، فهم آمنوا أولاً أن الكون خلق بواسطة مصمم ونتيجة لهذا الإيمان إفترضوا أنه طالما الكون مخلوق بواسطة مصمم إذا فهو يتبع ”قوانين طبيعية محددة“ ثم بدؤا رحلة إكتشافها؛ فها هو ديكارت – الذي يعتبر من قبل معظم مؤرخي وفلاسفة العلم هو الرجل الذي إخترع مفهوم قوانين الطبيعة – ”كل شيء في الكون، يتصرف بطريقة معينة، هذا هو قانون الطبيعة، إنه حرفياً الله يفرض إرادته على المادة في كل لحظة، بطريقة عقلانية“، وها هو نيوتن يقول ”عمل الحقيقة والفلسفة – وتذكر أن الفلسفة تعني العلم لهؤلاء الأشخاص في ذلك الوقت – هو الإستفسار عن القوانين التي إختارها الخالق.
النقظة الثالثة: أسس العلم التجريبي كان لها أصولاً دينية.
النظرة الأرسطية القديمة للعالم كانت نظرة قائمة علي ملاحظات الحس العام، أرسطو يضع ريشة في يده ويتركها فيجد أنها تسقط ببطيء مقارنة بحجر يتركه من يده فيستنتج من ذلك أن الأشياء الثقيلة تسقط علي الأرض بسرعة أكبر من الأشياء الخفيفة، كانت النظرة الأرسطية قائمة علي فكرة أن حواس البشر كاملة ويمكنها أن تدرك بسهولة حقيقة الطبيعة، ظلت هذه النظرة مهيمنة لفترة طويلة جداً، لكن في القرن السابع عشر وإعتماداً علي حجج دينية جادل العالم باسكال الذي كان له دور مهم في تطوير العلوم أيضاً أن هذه النظرة الأرسطية خاطئة والسبب في ذلك أنها تتعارض مع الإنجيل المسيحي، فحسب روايات الإنجيل، غضب الله علي آدم لأنه عصاه، وأمره بالخروج من الجنة والنزول إلي الأرض – نتيجة لغضب الله على آدم فقد جعله كائن غير كامل، وعليه إستنتج من الإنجيل أنه لا يمكن الوثوق في حواس البشر بل يجب أن نستخدم طرق أخري، شارك باسكال في هذه النظرة مؤسس العلم التجريبي في الغرب فرانسيس بيكون فقد ذكر أيضاً أن ”ذكاء البشر بمفرده لا يمكن الوثوق فيه، بسبب سقوط آدم من الجنة ويجب أن نستخدم طرق أخري“ ليأتي بعد ذلك أحد أهم علماء المجتمع الملكي البريطاني روبرت هوك ليقول في واحد من أشهر الكتب العلمية كتاب Micrographia ”لدينا عدم إكتمال فطري في داخلنا بسبب إرتكاب الخطيئة، بالنظر إلى ذلك، فإن العلاجات يمكن أن تنطلق فقط من الفلسفة الواقعية والميكانيكية والتجريبية“ فكان بذلك أول عالم يري كائن حي مجهري بواسطة الميكروسكوب، فالتفكير الديني كان أحد أهم الأسباب التي دفعت علماء القرن السابع عشر لأداء العلم تجريبياً إعتماداً علي أجهزة أكثر دقة من حواس الإنسان كالميكروسكوبات والتلسكوبات، وليس إعتماداً علي الحدس العام الخاطيء لأرسطو.
النقطة الرابعة: الدين حافظ علي العلم في الماضي.
في القرن السابع عشر كان تفكير البشر بدائي قليلاً، فكان معظمهم يري أن ممارسة العلم بلا فائدة وأنها نشاط تافه لسنا بحاجة إليه، فقد كانوا يتسألون ما هي فائدة العلم؟ ما هي المبررات كي نمارس العلم؟ ماذا نستفيد نحن كإنسانية إن عرفنا أن مدارات الكواكب إهليجية؟ ماذا نستفيد إن عرفنا أن الأرض تدور حول الشمس؟ ما كان تفكيرهم في الماضي يمكنهم من إدراك أن العلم ستكون له أهمية كبيرة جداً وأنه سيغير حياة البشر، في هذه الفترة إستخدم علماء القرن السابع عشر الدين كمبرر لممارسة العلم وبالتالي تمكنوا من حماية العلم من الزوال وجعلوه يستمر وذلك من خلال طريقتين:
– أقنعوا الناس أن ممارسة العلم مهمة لأنها تمكننا من التعرف علي قوة وعظمة الإله من خلال دراسه مخلوقاته كما قال روبرت بويل تماماً ”نكتشف كماليات الإله المعروضة في مخلوقاته“.
– أقنعوا الناس أن الإنخراط في الأنشطة العلمية يمكن إعتباره نشاط تعويضي في جوهره يعيد لنا السلطة التي نتمتع بها على بقية الخلق، فالعلم سيمكننا من التحكم في المخلوقات الأخري وذلك بعد أن خسرنا هذه السلطة بسبب الخطيئة.
فالعلم في الواقع يدين بالكثير والكثير للأفكار الدينية والمتدينين وليس للإلحاد أو الملحدين، وفي معظم الأوقات علي مر التاريخ كان العلم والدين أصدقاء، بعكس ما يتم الترويج له هذه الأيام من الأساطير من قبل الملاحدة الجدد أمثال چيري كوين ودوكنز بأن العلم والدين كانوا أعداءاً دائماً أو أن العلم يجب أن يحل محل الدين ويقضي عليه.
مصادر:
[1] https://ir.stthomas.edu/cgi/viewcontent.cgi?article=1441&context=ustlj
[2] http://blogs.nature.com/soapboxscience/2011/05/18/science-owes-much-to-both-christianity-and-the-middle-ages
[3] https://ora.ox.ac.uk/objects/uuid:b06f322b-2249-4bc1-ac37-ffb6ac74cde6
[4] https://nyupress.org/9780814780237/a-history-of-arabic-astronomy/
[5] https://www.cambridge.org/eg/academic/subjects/history/middle-east-history/islamic-technology-illustrated-history?format=PB&isbn=9780521422390
[6] https://global.oup.com/academic/product/ibn-khaldun-9780198090458?cc=us&lang=en&
[7] https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S1369702106716984
[8] http://www.astro.osu.edu/~nahar/ismws/oldestUniversitywomen.pdf
[9] https://www.faraday.cam.ac.uk/resources/multimedia/the-religious-origins-of-modern-science-2/
[10] https://global.oup.com/academic/product/science-without-god-9780198834588?cc=us&lang=en&
[11] https://www.journals.uchicago.edu/doi/abs/10.1086/354314
[12] https://www.dur.ac.uk/news/allnews/thoughtleadership/?itemno=33463
[13] https://press.uchicago.edu/ucp/books/book/chicago/T/bo19108877.html
[14] https://www.nytimes.com/2001/10/30/science/how-islam-won-and-lost-the-lead-in-science.html