بلغتْ بلادُ فارس درجةً عاليةً من التقدم، حتى لقد عَرفتْ نظامًا مائيًا مُعقّدًا، يعتمد على مياه الأمطار عن طريق عمل قنواتٍ فَخَّاريّة في الجبال؛ لتجريَ فيها الأمطارُ النّازلة دون أن تُهدر، وعن طريق فُوّهاتٍ محفورةٍ على سطح الأرضِ؛ لتُصَبّ فيها المياهُ، وتتجمعَ في خَزّاناتٍ وصهاريجَ موجودةٍ في باطنها، وتستمد مياهَها من البئر الأمِّ، ثم تتوزّع في شبكاتٍ مُعقَّدةٍ في مجاري وقنواتٍ لتصلَ إلى المناطق المراد توصيلُ الماء إليها؛ لتجلبَ المياه من مناطق الجبال العالية إلى الأراضي المنخفضةِ عن طريق تلك الأنفاق تحت الأرض. ألستَ ترى ذلك نفسه تقنية مجاري وأنابيبِ المياه؟! كُلّ ذلك جرى إحياؤه في عهد الدولة الصّفويّة –أُولى الحركات الشعوبية الرسمية النظامية-؛ لتعيدَ أمجادَ فارس. وكذلك هذا النظام المائيّ الذي يرجع تاريخُ بعض القنوات الفارسية فيه إلى (3000) عامٍ!
لكن، ليس كُل ذلك من أجل التباهي بحضارةٍ مجوسيةٍ أخرى، وإنما لإلقاء الضوء على جزءٍ بسيطٍ من تلك الحضارة التي قد تزيغ قلوبُ وأعين الكثير من الناس عنها.
وُلد باحثٌ عن الله في إحدى قرى أصفهان (جَيَّان) -ويُقال عنها في الفارسية: “أصفهان، نصف جهان”، أي: نصف العالم، لامتلاكها جميع مقوّمات الجمال الطبيعية والمادية!-؛ ليكونَ جمالًا أخّاذًا فوق الجمال، جمالِ المكان وبريقِ الحضارة، ليس ذلك فحسب، بل كان والده رئيسًا لهذه القرية، وأغنى أهلها وأعلاهم منزلةً، فأُضِيف إلى ذلك (أي: الجمال) الجاهُ والمال! إنه الفتى الفارسيّ سَلمان، ومن مثله؟!، ولا يوجد أصدق من كلامه؛ لنتعرف عليه عن كثَبٍ، إذْ لم يكن طريقه إلى الله ممهدًا خاليًا من العوائق، لكن ما الذي يضيرُه، والله كافٍ عبادَه؟! فقد قال -أي: سلمان- إنه اجتهدَ في المجوسية حتى صار قيِّمَ النار التي كانوا يعبدونها، وأُوكل إليه إضرامُها حتى لا تخبو ساعةً في ليلٍ أو نهارٍ… ولم يشأ الله أن يكون ذاك مآله، بل شاء له منزلةً أعلى -ربما- لِما علم من حاله!
ذاتَ يومٍ قادتْه الأقدارُ إلى المرور بكنيسةٍ، جذب انتباهَه أصواتُ صلاتِهم؛ فرغب في هذا الدين، ووجد في ذاك خيرًا مما وجد في المجوسية، وكدأبه باحثًا، أراد أن يصل لأصل هذا الدين؛ فكان (الشام)، ذهب إليها معاندًا أباه تاركًا الدنيا ورغدَ العيش وراءه، لا يحسب لتبعات اعتقاده وشجاعته شيئًا.
وصل باحثُنا إلى الشام، سائلًا عن أفضل رجلٍ من أهل ذلك الدين، فلازمَه؛ ليتعلمَ منه، ويصلّيَ معه، ويظلَّ في خدمته حتى بعدما وجده رجلَ سوءٍ؛ يأكل الصدقاتِ، فلم يصرفْه هذا عن اعتقاده شيئًا، فقد كان يدرك أنّ أخطاء الأفراد لا يُفترض أن تُنسبَ إلى الدين نفسِه! جاء بعده (أي: الرجل الأول) رجلٌ زاهدٌ عابدٌ راغبٌ في الآخرةِ؛ فأحبه وتعلم منه، وعندما جاءته المنيّة، سأله أنْ يوصله لرجل لم يُحرِّف أو يُبدِّل؛ ليواصل بذلك رحلتَه في البحث عن الله، فكانت (الموصل) محطته التالية؛ فجاءه ووجده على خير حالٍ، وأقام عنده حتى حضره الموتُ، وكان قد أوصله إلى رجلٍ على مثل ما كان عليه صاحباه.
وربما كانت هذه أهم محطةٍ فارقةٍ في حياته؛ إذْ أخبره بالبشارة المنتظرة! وهي: إنه قد دنا الزمان الذي يخرج فيه بأرض العرب نبيٌّ يُبعثُ بدينِ إبراهيم، ثم يهاجرُ من أرضه إلى أرضٍ ذاتِ نخلٍ، وذاتِ حرَّتين (وهما: حرةُ واقم، وحرةُ الوبرة، وتعرف حديثًا بالحرة الشرقية، والحرة الغربية)، ومن علاماته: أنه يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوة! ليُكتَب في رحلته محطةٌ جديدةٌ، رافق فيها جماعةً من التجار العرب؛ ليحملوه معهم، لكنهم غدروا به في الطريق؛ ليبيعوه وينتهي به المآل عبدًا في خدمة رجلٍ من يهود (بني قريظة)، ولا يدري أن المحنة قد تحمل في ثناياها منحًا -وهذا لحسن حظه-، وينتقل به ذلك الرجل الذي اشتراه إلى (يثرب)، فبدأت تتضح أمامه علاماتُ البشارة شيئا فشيئا، ويرى النخل الذي ذُكر له، والمدينة كما وُصفت له، وأخيرًا، يجد ضالته الكبرى، ويلتقيَ الرسول بنفسِه، وليزداد إيمانا ويقينا منه، يعرض عليه بعض التمرات؛ فيجده -حقًا- يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، ثم رأى بعينه خاتم النبوة؛ ليصدق فيه قول الله -عز وجل-: “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا وإنَّ الله لمع المُحسنين”، ثم ليهتدي الباحثُ، ويصبحَ عارفًا اللهَ حقًا!
فلم يغره بريقُ الحضارة الزائفُ، ولم تُغرقْه المادةُ، أو تأسرْه الطبيعةُ الأخَّاذة! زهد في كلّ ذلك بحثًا عن الحقيقةِ، حقيقةِ الوجود!، ورغبةً في المعرفة، معرفةِ الله؛ ليخوض مشاقَّ الطريق، ويَسبِر أغوارَ الظّلامِ؛ أملًا في شعلةِ النّور التي أضاءتْ العالمَ أجمعَ! فقد أصبحتْ بالإسلام قيمةٌ للوجود البشري، والحياة الإنسانية، عوضًا عن العبثيّةِ الوجوديّةِ، وردُّ كلِّ شيءٍ إلى اللهِ، بدلًا من الطبيعةِ الأمِّ! لينتهي به المآل غير عابئٍ في أرضٍ صحراويةٍ، وغير آسفٍ على ما خلّفه من الدنيا. ترك الوطنَ، والمعشرَ، والجاهَ، والمالَ، ومظاهرَ التحضرِ الواهمِ، وترك الفانية من أجل الباقيةِ، “وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان…”!
أسلم وحسُن إسلامُه، حتى قال فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “سَلمان منّا أهل البيت”؛ ليكون هذا تشريفًا أعظم مما تركه، وكيف لا! وهو -رضوان الله عليه- صاحب فكرةِ الخندقِ الذي ذادَ عن المُسلمين يومَ الأحزاب، فأصبح المسلمون قومَه، وأرضُ الإسلام بلده! هكذا كان المجتمع الإسلاميّ الواسعُ، إذْ صَهَرَ جميعَ الحواجز الطبقيّة، والقوميّة، والعرقيّة، واللغويّة، والاجتماعيّة، ويشعر فيه الناس كلهم باختلاف مواطنهم بهذا الانتماء الواسع العالميّ العظيم، فلم يكن لأحد فضلٌ على غيره بسبب نسبه أو عرقه، “فلا فضلَ لعربيٍّ على أعجميٍّ، ولا لأبيضَ على أسودَ” إلا بالتقوى، والعمل الصالح.
أصبحت فيه جنسيةُ المسلم عقيدتَه، وموطنُه أيّة بقعةٍ يُذكر فيها اسمُ الله، وتُرفع فيها رايةُ التوحيد، وكانت الجنةُ هي المأوى لكل من فقد مأواه الدنيويّ! مجتمعٌ أصبح فيه الجميع إخوةً، لا برابطةِ الدمِ، وإنما بروابط أقوى، وهي رابطة الدين التي يُقرها في كلِّ لحظةٍ مناديًا: “إنّما المؤمنون إخوة…”.
المصدر:
قاعدة الثقافة والحضارة الإيرانية -محمودي بختياري
كتاب صور من حياة صحابة