لا يمكننا تخيّل وجود مجتمع لا يتبادل أفراده المعلومات بين بعضهم أليس كذلك؟ هذا بديهي في المجتمعات البشرية والحيوانيّة كذلك؛ ولكنّ بعض الظروف قد تفرض نفسها في المجتمع البشري فيُراد تحقيق عملية التواصل (تبادل المعلومات) ولكن بشكل آمن سريّ، بحيث يتم منع الأشخاص غيرِ المخوّلين من الاطّلاع على المحتوى الحقيقي للرسائل، مثل هذه الرسائل قد تكون أوامر عسكرية أو قرارات سياسية. وهذه هي المقالة الأولى في سلسلة مقالاتنا عن التشفير، ويصبح الكلام تقنيًّا أكثر كلما مضينا قدمًا في السلسلة.
1- هيروغليف – أقدم تقنية تشفير
ولدت أقدم تقنية تشفير منذ ألف وتسعمئة سنة، وهي المعروفة باسم التشفير الهيروغليفي؛ حيث تستخدم أبجدية من الحروف قبل الإرسال تستبدل بحروف الرسالة الأصلية فيكون لكل حرف في الرسالة مقابله فيها، ثم تُجري عملية استبدال معاكسة عند وصول الرسالة إلى الطرف الآخر. لم تعتبر هذه محاولاتٍ جادةً للقيام باتصالات سرية وإنما استخدمت للتسلية وصناعة الألغاز.
2- شيفرة قيصر
ليس من الضروري اختراع أبجدية وسيطة لتحقيق الهدف من التشفير، في هذه الطريقة يتم الاتفاق على رقم عشوائي (الرقم 3 مثلًا) وتُعاد كتابة الرسالة المراد تشفيرها بنفس الأبجدية، ولكنْ مع استبدال كل حرف يقع بعد الأصلي بثلاث خانات به، فتصبح الرسالة غير مفهومة.
وعند وصول الرسالة للطرف الآخر فإنه يمزع كل حرف ويأتي بالذي يسبقه بثلاث خانات ليحصل على الرسالة الأصلية.
من عيوب هذه الطريقة أن الرسالة إذا وقعت في يد العدو فإنه يجرب استبدال الحروف بطرح الخانات أو زيادتها في كلمة واحدة، حتى تصير مفهومة وعندها يستطيع فك تشفير كل الرسالة بسهولة!
كتب ديفيد كان (David Kahn) في كتابه (The Code breakers) أن علم التشفير (الحديث) نشأ عند العرب، وأنّ أوّل من وثّق طرق التشفير المبرمجة (أي التشفير المنظّم) هو الفيلسوف وعالم الرياضيات الكِنْدي (al-Kindi) المولود عام 800م، فقد كتب الكندي كتابًا عن التشفير سمّاه (رسالة في استخراج المعمّى) وصف فيه أنواع الشَفَرَات وحلّلها (تحليل الشفرات يعني إيجاد نقاط الضعف في أنظمة التشفير) وضرب أمثلة إحصائية على رسائل مكتوبة باللغة العربية. وظلّت شَفَرَات الكندي تعتبر الأقوى حتى وصلنا إلى الحرب العالمية الثانية. وقد أطلق على علم التشفير عند العرب اسم (علم التعمية).
ثُمّ في القرن الخامس عشر (بعد الكندي بستة قرون) كتب أحمد القلخشاندي كتابه (صُبْحُ الأعشى)، وهو موسوعة مكونة من أربعة عشر جزءًا تضمّنت قسمًا عن علم الترميز، وفيه قام بتحليل الشَفَرَات ووضع جداول إحصائيّة للحروف التي لا يمكن أن تظهر معًا في كلمة واحدة. وقد نُسبت هذه المعلومات إلى ابن الدريهم (1313-1361) ولكن كتاباته عن التشفير فُقدت!
وبعد زحف المغول وقضائهم على الخلافة العباسية، نهاية العصر الذهبي الإسلامي صار (علم التعمية) ميتًا نسبيًّا.
نتحدّث في المقالة الثانية -إن شاء الله- عن الثورة التي حصلت في علم التشفير في الحرب العالمية الثانية وعلم التشفير الحديث.