عندما تصبح حُجَّة التَطوُرِي حُجَّةً عليه.
إختبار كينيث مِيلَر للتطور.
في إحدى المُناظرات المسجلة بين أنصار نظرية التطور الدارويني و أنصار نظرية التصميم الذكي، قام أحد أشهر المدافعين عن نظرية التطور المعاصرين كينيث ميلر – Kenneth R Millerوهو عالم في البيولوجيا الجزيئية في جامعة براون بأمريكا، بذكر دراسة قام بها هو زملاؤه مبنية على توقع مبني على صحة التطور الداوريني. هذا التوقع قام به هو و زملاؤه حول ما يجب أن يجدوه في أحد الكائنات الحية المكتشفة حديثاً وقتها كنوع من الاختبارات لصحة التطور(1). لكن قبل عرض حيثيات دراسته وتوقعه وتبعياته، سنحتاج أولاً لتقديم بعض المسائل المهمة.
مقدمة مختصرة:
تقوم النباتات بإنتاج غذائها بنفسها عبر عملية معقدة جداً تسمى بالتركيب الضوئي (Photosynthesis) وتحدث هذه العملية على مستوى عضيات هي الأخرى معقدة جدا و تسمى بالصانعات الخضراء(Chloroplasts) حيث تقوم هذه العضيات بالتقاط أشعة الشمس و تحويلها إلى المواد الكيميائية (الجلوكوز) التي يحتاجها النبات للنمو و التكاثر(2).
تعتمد الصانعات الخضراء في عملية التقاطها لآشعة الشمس على عدة أنواع من المواد الكيميائية المسماة ب “الصِبغَات”، أهم هذه الصبغات عند النباتات هو الكلوروفيل a و الكلوروفيل b و اللذان يعطيانها لونها الأخضر المميز. ترتبط هذه الصبغات مع بروتينات خاصة لتشكل مركبات معقدة تسمى بمعقدات حصاد الضوء (Light Harvesting Complexes) وتوجد هذه المركبات على مستوى أغشية الصانعات الخضراء ذات البنية المميزة (على شكل أغشية متراصة).(2)
النظرية الأكثر قبولاً حالياً بين التطوريين لشرح أصل الصانعات الخضراء عند النباتات و الطحالب هي نظرية التعايش الداخلي (Endosymbiotic Theory) (3).
تدعى هذه النظرية أن الصانعات الخضراء كانت في وقت مضى عبارة عن نوع من أنواع البكتيريا الزرقاء(Cyanobacteria) و التي قد تم ابتلاعها من قبل خلية حقيقية النواة (Eukaryotic Cell) ولكن عوضاً عن هضمها كما تفعل سائر الخلايا التي تقوم بعملية البلعمة، بل و هذا هو الهدف من عملية البلعمة أصلا، قامت هذه الخلية بالصدفة بالإبقاء عليها داخلها و الاستفادة من المغذيات التي تنتجها.
ومع مرور الزمن تعرضت هذه البكتيريا الزرقاء لعملية تدهور شديدة فقدت معها معظم جينومها و القدرة على العيش وحيدة، و أصبحت متخصصة في إنتاج الطاقة و معتمدة على الخلية البالعة لها في توفير الدعم اللازم لها كحاجيتها من بروتينات و مواد أولية أساسية لعمليات الأيض …إلخ.
تقترح هذه النظرية أن كل هذا حدث بعد أن “قفزت” جينات البكتيريا الزرقاء من جينومها إلى جينوم الخلية حقيقية النواة التي ابتلعتها!! وهذه العملية حدثت فقط تزامناً مع تطور أنظمة أخرى معقدة جداً لإعادة توجيه البروتينات الناتجة عن هذه الجينات إلى خلية “البكتيريا الزرقاء” (4)
بالاعتماد على نظرية التعايش الداخلي و المبادئ العامة لنظرية التطور، قام كينيث ميلر بتقديم حجة على صحة التطور (1). هذه الحجة ادعوا أنها توقع ناجح مبني على صحة النظرية و هو كالاتي :
في عام 1975 تم إكتشاف نوع غريب من البكتيريا الزرقاء و سُمِيَ بـ Prochloron didemn أو ما يمكن ترجمته إلى “بدائي الصبغات”. ما يميز هذا الكائن عن باقي البكتيريا الزرقاء هو استخدامه للكلوروفيل a و كلوريفيل b كصبغات مسؤولة عن التقاط أشعة الشمس، أي نفس الصِبغات التي تستخدمها النباتات و الطحالب و تُمَيزها عن باقي البكتيريا الزرقاء.
وبناءاً على هذه الملاحظة، افترض ميلر و غيره أن هذا الكائن هو حلقة الربط بين البكتيريا الزرقاء والصانعات الخضراء، و عليه توقع كنيث مِيلَر و زملاؤه وجود شبه أكبر بين هذا الكائن و الصانعات الخضراء، و هذا ما وجدوه حقا !!
يقول ميلر (1) :
“منذ بضعة أعوام، اكتُشِفَ كائنٌ مجهريٌ بدائي الخلية جِدُ مُثيرٍ للإهتمام اسمه بروكلورون .. بروكلورون تبين أنه أول كائن بدائي الخلية – كائنات بدون نواة – يحتوى على الكلوروفيل a و b، هذا يوحي بقوة أنه من وجهة نظر تطورية، فإن البروكلورون هو سلف الصانعات الخضراء عند النباتات العليا .. هذا الكائن أرسل إليَّ بسبب نوعية العمل البنيوي الذي أقوم به (هو يدرس بنية العضيات في الخلايا) و بفكرة ” لنقم باختباره” .. ما قمنا به في مختبرنا كان دراسة بنية غشاءه المسؤول عن عملية التركيب الضوئي، و إحزر ماذا؟ لقد وجدنا أن بنية غشاءه مشابه جداً لبنية غشاء الصانعات الخضراء عند النباتات، لو كانت مختلفة كان من الممكن أن يكون هذا حجة ضد التطور، لكن تبين أن الأمر ليس كذلك….”
كنيث ميلر عرض ما يمكن اعتبارُه حجة على صحة التطور، حيث جعل من دراسته عبارة عن اختبار لصحة نظرية التطور بعد أن اعتمد علي النظرية في صياغة توقع معين والمتمثل في ما يجب عليه إيجاده في دراسته.
موافقة نتائج دراسته للتوقع اعتبره ميلر دليلاً قوياً على صحة النظرية، واعتبر إمكانية عدم التوافق كحجة ضدها بإعترافه.
للإسف .. فإن انقلاب حُجج التطوريين حججاً عليهم ليس موضوعاً جديداً أو حتى نادراً في تاريخ هذه النظرية [أنظر المصادر (5) و (6)] .. فبعد أعوام من إكتشاف البروكلورون و طرحه من قبل التطوريين على أنه سلف الصانعات الخضراء، تبين أنه يختلف عن الصانعات الخضراء بشكل جذري، فنجد مراجعة (7) تقول في مستهلها :
“عموماً، نحن نقترح أن بنية معقدات حصاد الضوء (LHC) من البروكلروفيت (الشعبة التي ينتمي إليها البروكلورون و التي تأسست بإكتشافه) مختلف جداً عن تلك الموجود في الصانعات الخضراء، و هذه البنية قديمة تطورياً”
ثم بعدها يدخل في مناقشة طويلة حول العديد من الدراسات، و يَخْلُصُ منها مُؤَلِف الدراسة الي أنه:
“من المؤكد جدا أن البروكلوروفيت ليسوا أسلاف الصانعات الخضراء، و أسلاف الصانعات الخضراء الحقيقين، الذين يمتلكون شبيهاً للواقط الـ LHCII ليسوا معروفين بعد”
يبدوا أن البروكلوفيت يمتلكون معقدات لحصاد الضوء مختلفة بشكل جذري عن تلك التي عند النباتات و الطحالب.
لكن، إن لم يكن البروكلورون وشعبته (البروكلورفيت) سلفاً للصانعات الخضراء كما توقع كنيث ميلر و حاجج به على صِحة التطور، فماذا يكون من وجهة النظر التطورية بعد أن قام كنيث ميلر بمدِ رقبة التطور عالياً به؟
مَدُّ الرقبة عاليا هي كلمات “كارل بوبر” فيلسوف العلوم الشهير حين وصف النظريات العلمية على أنها تقدم توقعات ورهانات وتخاطر بإمكانية ثبوت خطئها لو فشلت توقعاتها (10) و هذا عين ما قام به كنيث ميلر بإدعائه أن التطور يتوقع وجود تشابه وبالتالي وجود علاقة (سلف – خلف) بين هذه الكائنات.
لكن حين يفشل التوقع، فبدلاً من ترك النظرية للفشل والتشبث بالمنهج العلمي، فضل ميلر و أنصار هذه “النظرية” التضحية بالمنهج العلمي والتشبث بالنظرية .. حيث نجد فريقاً بحثياً بعد أن درسوا علاقة بعض بروتينات معقدات حصاد الضوء عند البروكلوروفيت، ووجدوا مرة أخرى أنها لا تشبه أبداً بروتينات معقدات حصاد الضوء المقابلة لها عند النباتات (8) نجد هؤلاء التطوريون يهربون إلى ترقيع آخر (إحزروا ما هو؟) .. نعم، التطور المتقارب، فيقولون :
“بالرغم من أن النباتات العليا و البروكلوروفيت يشتركان في وجود الصبغيات، فإن أنظمة حصاد الضوء لكل منهما قد تطورت باستقلالية”
و هكذا، ترقيع وراء ترقيع، لكن مع كل ترقيع فإن نظرية التطور تتآكل منطقيا، فبالإضافة إلى تحولها من نظرية بسيطة إلي نظرية مرقعة محاطة بجيش من الفرضيات الثانوية والتي هدفها فقط ترقيع التناقضات التي ظهرت عبر الزمن، فإن هذه الترقيعات أيضاُ يمكن أن تعتبر حججاُ ضدها.
مثلا التطور المتقارب ليس فقط مفهوماً يجعل من “حجة التشابه” حجة دائرية تصادر على المطلوب بحيث أنها تفترض صحة التطور في مقدمتها و تصل إليه في نتيجتها!
إن الإشكال في التطور المتقارب ليس فقط كونه مفهوماً طُرح بهدف إنقاذ النظرية من التخطئة بدون تقديم أي تفسير حقيقي لسبب ظهور هذه التشابهات، بل إن الإشكال الأكبر الذي يمثله يكمن في كونه مجرد اسماً آخر لمفهوم “المعجزة” باعتبار أن التطور عملية عشوائية غير موجهة بأي شكل من الأشكال ولا هدف لها سوى زيادة الصلاحية. فمثلاً، هل من المعقول تصديق أن العيون تطورت مرات عديدة باستقلالية بعشوائية وبالصدفة و بدون أي تدخل حكيم؟ (9)
إن حجة كنيث ميلر ليس الحالة الوحيدة أين تصبح فيها حُجَجُ التطور حججاً عليه، بل كل حالة تحتاج مفهوم التطور المتقارب لتفسيرها يمكن اعتبارها فشلاً للنظرية وحجة ضد التطور، و هي حرفياً بالمئات (9).
المصادر :
(1)
https://youtu.be/WVthBu6zCY0
(2)
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC5264509/
(3)
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC2817223/
(4)
https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/20192748/
(5)
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=1316622091832975&id=390058721155988
(6)
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=1524534871041695&id=390058721155988
(7)
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/8481212
(8)
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC26388/
(9)
http://www.mapoflife.org/topics/category/eyes-other-visual-systems/
(10)
https://plato.stanford.edu/entries/prediction-accommodation/