سنتكلم الآن عن إحدى أهم مهارات الحوار التي يجب أن يكتسبها أي محاور أو مناقش أو دارس لمزاعم الإلحاد – وهي مهارة التفريق بين العلم بمعناه الواسع (أو المعرفة عموما Knowledge) وبين أحد أدواتها وهو المنهج التجريبي أو العلم التجريبي (والذي يشار إليه غالبا في الإنجليزية بـ science)
حيث بعدما كان المنهج التجريبي هو أحد وسائل المعرفة والعلم الواسع : صار عند الملاحدة وفي طغيانهم الإعلامي : هو (السبيل الوحيد) للمعرفة أو العلم ككل !! فما يمكن تجربته فقط يكون علما : وما هو غير ذلك لا يكون بعلم !!
ومن هنا تفهمون أصل تسمية الملاحدة وصفحتهم الإلحادية الشهيرة :
أنا أؤمن بالعلم (والتي يترجمونها إلى أنا أصدق العلم لتخفيف وطأتها قليلا) :
I believe in Science
وعليه : فسنبدأ معا في عدة منشورات الكشف عن أوجه القصور عند مَن يوهمون الناس بأن (العلم التجريبي) فقط هو سبيل معرفة كل شيء – وهي أوجه قصور معروفة لدى الفلاسفة والمفكرين والعلماء والمتخصصين – لكن الملاحدة (كعادتهم دوما) لا يراهنون إلا على جهل أغلب الناس للأسف بتلك المفاهيم !!
وسوف نتناول اليوم جانبين فقط – وسنستكملهما في الأيام القادمة
معرفة الغاية من كل حدث يقع : هي غريزة فكرية – وبها ارتقت معارف الإنسان ويتغذى خياله السابق للاختراعات والإنجازات – وبها تنمو مداركه للأمور – وبها تمت كتابة الأحداث ووضع التفاسير لها – والتأريخ – والقصص – والفلسفة – بل والنظريات والفرضيات كذلك !! وكل ذلك انطلاقا من السؤال عن الغاية الأكبر والذي يفهمه كل إنسان من دون تلقين ألا وهو :
لماذا انا هنا ؟!!
فالإنسان عندما يسأل لماذا أنا هنا : فهو لا يعني السبب (المادي) أو (العلة الفاعلة) لوجوده (وهي التقاء أبيه وأمه ثم ولادته) – لا بالطبع – هو يرنو إلى السؤال الوجودي الأكبر للمعنى من حياته : لماذا أنا هنا ؟! هو يسأل عن (الغاية) أو ما يمكن تسميته بالعلة (السببية)
وهنا وقفة لنتساءل :
هل العلم التجريبي وأدواته مؤهل للإجابة عن كل الأسئلة التي من مثل هذا النوع : لماذا (أو السببية أو الغاية) ؟ هل العلم الذي يبحث في التفاصيل المادية يتلمسها ويتحسسها كالأعمى في الغرفة المظلمة : قادر على معرفة (لماذا أو الغاية) ؟
ودعونا نأخذ مثالا بسيطا لتقريب الفكرة
وهو مقتبس عن عالم الرياضيات البريطاني جون لينكس (كعكة العمة ماتيلدا – من كتاب : جانوتي الإله : هل دفن العلم الله – والكتاب تم اختصاره مع كتابين آخرين لجون لينكس وصدر لمركز دلائل 1437هـ/2017م باسم : أقوى براهين د. جون لينكس) – والمثال مشهور ومتداول عند أكثر من كاتب ومفكر بأكثر من صورة وخلاصته كالآتي :
أن شخصا طرق عليك الباب وأعطاك كعكة من عمتك – وبما أنك لا تعرف (السبب أو الغاية) التي من أجلها تم صنع الكعكة : وبما أنك رجل علم تجريبي : فقد أعطيت الكعكة إلى مجموعة من العلماء طالبا منهم أن يبحثوا فيها عن (السبب) أو (الغاية) التي من أجلها تم صنع هذه الكعكة !!
وبالفعل : كان من العلماء من بحث في أبعاد الكعكة وشكلها الفراغي !! ومنهم من درس مكوناتها كيميائيا !! ومنهم من درس مكوناتها التي تم أخذها من الطبيعة والكائنات الحية !! ومنهم من درسها فيزيائيا !! وهكذا ….
والسؤال :
هل سيصل هؤلاء العلماء بأدواتهم (التجريبية) إلى معرفة الغاية أو الوسيلة أبدا ؟!
الإجابة :
مستحيل !!
لأن معرفة الغاية أو الوسيلة لا تخضع لأدوات العلم التجريبي دوما !!
وهنا يأتيك الجواب من عمتك :
أنها صنعتها للاحتفال بيوم ميلادك الذي نسيته في غمرة انشغالاتك !!
إذن :
الغاية والسبب (ذلك الشيء الهام في حياة كل إنسان ويهيمن على أغلب أحداثنا اليومية) هو لا يخضع للعلم التجريبي الذي يزعم به الملاحدة هيمنته لمعرفة (كل شيء) !! وكذبوا …
وفرق بين أن تقول أن إنسانا مات مختنقا (وتحلل سبب وفاته ماديا وتجريبيا – العلة الفاعلة) – وبين أن تعطي سببا وغاية من موته فتقول : مات بسبب عقاب الإعدام على جريمته (العلة السببية أو الغائية)
معلوم أن لكل شيء جوهر وماهية تصف ذاته وما هو بالضبط – ولكن العجيب هنا أن أدوات العلم التجريبي أيضا عاجزة عن إدراك الماهية !! بل هي في أغلب الأحيان لا تهمها أصلا ولن تؤثر في نتائجها !! فمثلا … إذا أردنا صنع نهضة علمية في صناعة السيارات في بلادنا – وأتينا إلى أحد أعقد أجزاء السيارة وهو المحرك : وأردنا أن نفككه لنتعلم عنه كل شيء وكل تفصيلة لعمل مثله ومن بعد ذلك الإبداع في تطويره – وهنا : يأتي دور العلم التجريبي وأدواته ورجاله – حيث سيقومون برسمه أولا على حالته السليمة – ثم البدء في تفكيكه جزءا جزءا – ورسم مكان كل جزء وإعطائه رقما حتى لا يتم فقد الترتيب والنظام للأجزاء معا – وهكذا …. إلى أن تم بالفعل فهم كل شيء عن المحرك وعمل مثله ومن ثم تطويره – وهنا السؤال :
هل شمل كل ما سبق أي إشارة إلى (صانع) هذا الموتور الذي فككوه ؟!! هل شمل أي دراسة لشخصية وذات من (صممه) ؟؟ هل شمل أي تعرض لمَن الذي تولى تركيبه ؟؟ ماهيته ؟؟ هل هو إنسان ركبه يدويا أم مصنع ركبه ميكانيكيا ؟!!
والإجابة :
كل تلك المعلومات عن (الماهية) لا تهم !!
ولم تؤثر على إنجاز العمل المادي في استخراج التفاصيل والتركيب للمحرك !!
بل – والأكثر من ذلك – :
أن الإنسان من قديم الزمان وإلى اليوم يمكنه التعامل مع كل شيء قبل حتى الكشف عن ماهيته !! فالذين فككوا المحرك هنا قد يكونوا من القرن التاسع عشر : وقبل معرفة معلومات الذرة والإلكترونات التي فيها والبروتونات والنيوترونات والفوتونات والليبتونات إلخ إلخ !! هم تعاملوا مع (أجزاء) المحرك المختلفة دون الكشف عن (ماهيتها) ومم تتكون في ذاتها !!!
وما قيل عن المحرك هنا : يقال على كل شيء من حولنا !!
فبإمكاننا بأدوات العلم التجريبي الكشف عن مكونات أي موبايل وكيف يعمل – الكشف عن جهاز تجسس سقط في بلادنا وكيف يعمل : كل ذلك دون التعرض لـ (ماهية) الذي صممه وما هي صفاته الشخصية أو الذاتية (اسمه – لونه – طوله – بلده – لغته إلخ)
والخلاصة :
لا .. ليس من خصائص ولا قدرات ولا أدوات العلم التجريبي (معرفة) كل شيء في الحياة أو الكون .. وسوف نتعرف على المزيد من ذلك في المواضيع القادمة
فانتظرونا