قبل أن نبدأ – كلنا يعلم أن المادة والذرات هي وليدة الزمكان (أي الزمان والمكان) – وأن حدودها في العلم التجريبي والمنهج المادي والإلحادي هو هذا الإطار من الزمكان – ولذلك يرفض الملاحدة والماديون أي حديث عن ما يمكن أن يكون (خارج) هذه الحدود الزمكانية مثل الغيبيات (التي يسمونها ما وراء الطبيعة) مثل الله والجنة والنار والملائكة والجن لأنه لا يمكن رصدهم بالحواس المادية ولأنهم يخرقون هذه الحدود الزمكانية – ولكن السؤال هو : هل كل الوجود (وحياتنا نحن كبشر بالفعل) تنحصر في تلك الحدود الزمكانية ؟ أم أن هناك ما يعرفه كل إنسان منذ بدء الخليقة وإلى الآن ويعارض كل هذه المزاعم السطحية للملحدين والماديين ؟
وتعالوا لنبدأ معا الإشارة إلى موضوع التفكير في المستقبل نفسه …. ومعه الخيال أو التخيل للأشياء التي لم تقع .. هل يخضع ذلك منطقيا للعلم التجريبي والمادي ؟
ولكي نتخيل معا الإجابة : فكروا في المثال التالي :
لدينا بيض ودقيق وماء – فمهما صنعنا بهم من خلطات : فكل ما سينتج عنهم لن يخرج عن حدود مكونات هذه الثلاثة معا – كل ما يمكن أن نتخيله من تخليطات من هذه الثلاثة : سيكون له حدود عقلية ومنطقية لن تخرج عن حوض وحدود مكونات هذه الثلاثة – والسؤال : هل يمكن أن نجد يوما في خليطهم : ليمون ؟!! الإجابة : مستحيل !! حسنا .. هل يمكن أن نجد : أناناس ؟!! نفس الإجابة …
جميل جدا ….
والآن :
عندما يتحدث الملاحدة والماديون عن التفكير والوعي والعقل : ويصورونهم على أنهم لا يتعدوا أيدا النشاط (المادي) الناتج من تفاعل الذرات في الحدود الزمكانية الخاصة بها – ثم نجد شيئا بسيطا جدا يفعله كل منا (حتى أصغر طفل) وهو القدرة على (تخيل ما ليس موجودا) !! نحن لدينا القدرة على تخيل ملايين الأشياء غير الموجودة على أرض الواقع أو غير المرصودة على أرض الواقع أو التي لم يعاينها أحد بحواسه !!
قادرين على تخيل وحوش – كائنات غريبة – كائنات فضائية – وجود الملائكة – الجن – الله – الجنة – النار – أحداث مستقبلية لم تقع – وهكذا – وهم في كل ذلك يستشعرون كل لحظة كأنهم مستيقظين ويتكلمون ويلمسون ويسمعون ويرون ويشمون : وهم لم يغادروا فراشهم مترا واحدا !!
والسؤال :
كيف أتت مثل هذه الأفكار من (خارج) حوض الذرات المحكومة بحدود مادية (الزمكان) ؟ كيف تتكون أفكار للإنسان لم يخضها من قبل بتجربة حسية (مثلا يحلم أنه طائر في السماء أويسقط من مكان شاهق أو أو أو أو وهو لم يمر بأي من ذلك من قبل) ؟!
ولا نتوقع الإجابة إلا باللف والدوران والتهرب والمغالطات كما شرحنا من قبل
كل ذلك :
في الوقت الذي موقف واحد من هذه المواقف كفيل بإعادة شخص مادي إلى الإيمان بالغيبيات وما وراء الطبيعة مرة أخرى – وذلك مثلما وقع مع الدكتور مصطفى محمود رحمه الله – وكما يحكي في هذا المقطع قصته العجيبة مع رؤيا منامية وقعت له وكانت سببا في إفاقته من وهم (الإلحاد والمادية) :
والآن نأتي إلى صلب موضوعنا اليوم : وهو ما يزيد الأمر تعقيدا في وجه الملاحدة والماديين – إذ لن يقتصر الأمر على مجرد (التفكير) أو (الخيال المستقبلي) ولكن : سنذكر شيئا تعرفه كل البشرية وكل الأمم وكل البلدان وكل الناس وإن لم يقع لكل منهم على حده بالضرورة – ولكن غالبا تجد شخصا على قرابة أو معرفة بمن وقع له هذا وهو : أنه يحلم أو يرى رؤيا منامية : ثم تتحقق تماما كما رأى – أو كما فسرها له العالمون بمفاتيح تفسير الرؤى والأحلام (وهذا تحدي آخر أعجب سنذكره في نهاية الموضوع) !!
وقبل أن نسرد الآن بعض أشهر هذه المواقف (عدد قليل جدا جدا جدا فقط كعينات ليس إلا) : فيجب أن نذكر لكم محاولة التبرير السطحي والمضحكة جدا من جانب الملحدين والماديين والذين يستميتون لتفسير كل شيء على أنه حوادث طبيعية لا علاقة لها بالغيب أو (ما وراء الطبيعة) – إنهم يقولون :
أن هذه الرؤى والأحلام التي تتحقق : هي مجرد أفكار خيالية من التي تقع في النوم : لكن صادف أنها تحققت (أي بالصدفة البحتة) من بين مئات الأحلام التي نراها في نومنا
وهنا نرد عليهم بهذا التقسيم البسيط – وهو أن ما يراه النائم ينقسم إلى 4 أنواع :
1-أشياء يراها نابعة من نفس ما كان يشغله في يومه أو في هذه الأيام من حياته – مثلا الطالب الذي يسيطر على عقله التفكير في الامتحانات قد يحلم بالامتحانات – الفقير الذي أتعبه الجوع قد يحلم بالأكل – الرجل الذي يبني بيتا وأرهقه الإشراف والمتابعة قد يحلم ببعض تفاصيل ذلك وهو نائم
2-أضغاث أحلام – وهي الأحلام التي تشبه الهلوسات التي لا معنى لها وتكون في صورة مقتطفات لا يربطها شيء محدد (وكلمة ضغث تعني الخليط ومنه قول الله تعالى لأيوب عليه السلام : وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث) فمثلا ترى أنك تذهب لتقابل صديق لك في الجامعة – ثم تظهر وحوش تطاردكما !! ثم تمران على صديق لك لم تره منذ المرحلة الابتدائية !! ثم تلجآن إلى بيت جدك الذي مات منذ سنوات – ثم تساعدكما خالتك التي لم تسمع عنها ولم ترها في حياتك وهكذا تصعد وتهبط وتطير : ولا يوجد رابط واحد للموضوع !! ولغرابة هذا النوع من الأحلام : ظنه المفسرون الذين أتى بهم ملك مصر أيام يوسف عليه السلام أن ما رآه من سبع بقرات عجاف يأكلن سبع سمان … إلى آخر الرؤية : أنها (أضغاث أحلام) ليس لها تفسير !! ثم فسرها له يوسف عليه السلام
3-رؤيا محزنة – وهي مؤلفة من أشياء تصيب الإنسان بالحزن فيما يكره – وهذه تكون من الشيطان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة
4-رؤيا تتحقق – وهذه هي التي نعنيهاهنا بهذا الموضوع : سواء كانت رؤيا أحداثها وأشخاصها واضحين كفلق الصبح فتقع تماما كما رأيتها بعد أيام أو سنوات (وهي ليست ظاهرة الديجافو التي تحدث قبل وقوعها بثوان ويرجعون ذلك لخلل في الوعي للحظات يتأخر فيه الإدراك عن الحدث) – أو سواء كانت برموز وإشارات لها تفسيرها لدى كل من وهبه الله علما بالتفسير أو قرأ عنه وتمرسه : فتقع أيضا كما رأى وتم تفسيرها له
والسؤال هنا :
بأي عقل وبأي منطق يقولون أنها (صدفة) من بين مئات الأحلام التي يراها الإنسان !! وهل يرى أحدنا مئات الأحلام بتفاصيلها حتى تخطيء كلها ويصيب موقف منها : فيقع كما رأيناه تماما بتمام !! نفس الأشخاص والأماكن (والتي بالمناسبة قد لا تراها في حياتك أصلا قبل الحلم !!) ونفس الكلام الذي سيقال !! ما هذا الجنون ؟!!
إن الملاحدة والماديون يصرون على تأكيد الهوة بينهم وبين الناس بتلك الأكاذيب السمجة التي يخترعونها لينكروا شيئا يعرفه كل البشر !!
بل وحتى في أكثر السيناريوهات تطرفا وهي العبث بالزمن : فكيف العبث بالزمن سيأتينا بـ (رموز) في الرؤى والأحلام لها تفسيرات معلومة وتقع ؟! مَن الذي يضع هذه الرموز ومن الذي (يُشفرها) ليؤكد لنا على أن الأمر (خارج الطبيعة) و (الزمكان) ؟!
ونترككم الآن مع مجموعة من أشهر هذه المواقف عبر التاريخ – والتي يتقبلها كل البشر في كل أمة وثقافة وبلد قديما وحديثا – بل ولها وقائع ملموسة في تاريخ شعوب كاملة وحروب :
1-من أقدم ما سجلته البشرية في تأويل وتفسير الأحلام : بردية شيستربيتي الفرعونية من الأسرة 12 (1990 : 1786 ق م)
2-وعند الإغريق كذلك كانت الرؤى والمنامات تحتل مكانة هامة .. حتى جاء ذكرها في أسطورة الإلياذة ووقوعها لبطلها أجا ممنون ومَن معه مثل أخيل وهرقل
3-وفي الهند كذلك : اعتبروا الرؤى المنامية رسائل اتصال علوية بالبشر – ولعل من أقدم ذلك هي مخطوطة من القرن الخامس قبل الميلاد تدعى (أترافافيدا)
4-وكذلك في بلاد الرافدين القديمة .. حيث وجدوا مخطوطا كذلك في مدينة النجف بالعراق ترجع لعهد الإمبراطور آشور بنيبال تتعرض للإلهام للبشر أثناء الأحلام !
5-ولذلك كله يرى ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع الحديث بخبرته الإنسانية الكبيرة وحياديته ((العلمية)) و((التجريبية)) المشهود له بها :
أن الرؤيا : مدرك من مدارك الغيب !!! (وفي حديث صحيح عن النبي أن الرؤيا الصادقة جزء من ستٍ وأربعين جزءا من النبوة)
6-وحتى في أوروبا – ففيهم مَن كان ينسب الرؤى لعالم الغيب (مثل سقراط)
7-فإذا جئنا إلى قصص ووقائع الأنبياء والرسل التي تقبلتها كل الأمم المؤمنة بلا نكير (ولو كانت مستحيلة أو تتحدث عن شيء لا يعرفه الناس بالتجربة ما كانت قبلتها) : فبالنسبة للإسلام وللنبي محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمين : رؤيا أمه حينما حملت به – ورؤيا الصحابي لصيغة الآذان كطريقة لجمع المسلمين للصلاة في المدينة – ورؤيا عاتكة بنت عبد المطلب عمة النبي وهي في مكة لهزيمة الكفار في بدر – ورؤياه لعذاب عصاة الأمة – ورؤياه في معرفة مكان السحر الذي سحره اليهودي به – ورؤياه في ظهور مسيلمة الكذاب – وغير ذلك كثير هو وصحابته رضوان الله عليهم
8-وأما بالنسبة ليوسف عليه السلام : فرؤياه عن سجود أبيه وأمه وأخوته له والتي تحققت في مصر – ورؤيا صاحبي السجن اللذين قصاها عليه – ورؤيا ملك مصر عن السبع بقرات السمان اللاتي يأكلهن سبع بقرات عجاف ….
9-وهناك أيضا رؤيا الملك النمروذ لذهاب ملكه على يد ولد يولد : فكان إبراهيم عليه السلام
10-ومثله رؤيا فرعون بزوال ملكه على يد ولد يولد : فكان موسى عليه السلام
11-وهناك رؤيا الملك عمرو بن عامر حاكم اليمن قبل انهيار سد مأرب
12-وكذلك رؤيا الموبذان (فقيه المجوس الفرس) بزوال ملك كسرى ودولتهم
13-وأيضا رؤيا بختنصر وتأويل النبي دانيال لها
14-ورؤيا الخليفة الفاطمي العاضد لزوال ملكه بسبب أحد شيوخ المساجد فكان هذا الشيخ من دافعي صلاح الدين لذلك فيما بعد
15-رؤيا يوسف النجار بوجود خطر على المسيح عليه السلام وهربه به وأمه إلى مصر
16-حلم يوليوس قيصر بأنه يرضع من أمه : ففسروه له بأنه سيملك روما (كان يُرمز لها بذئبة ترضع أطفالها) .. فزحف على روما وفتحها وصار إمبراطورا عليها
17-وفي المقابل يروي المؤرخ الروماني ماكسيموس أن هانيبال رأى حلما يدله أيضا على غزو روما وإيطاليا – التي كان يكرهها – وأنه سيصير كالحية العملاقة التي تحطم كل شيء يقف في طريقها : ففعل هانيبال ذلك : وبالفعل دخل إيطاليا وروما واستولى عليها
18-رؤيا الإمبراطور الفارسي زيدكسي والتي ذكرها هيرودوت المؤرخ الإغريقي وكان على أثرها أول إمبراطور فارسي يغزو الإغريق !
19-رؤيا هتلر الغريبة والتي ذكرها في كتابه الشهير (كفاحي) : حيث كان جنديا عاديا في الكتيبة البافارية ساعتها في الحرب العالمية الأولى 1917م – وقد رأى رؤيا مزعجة وهي أنه مدفونا تحت أكوام من التراب والحديد المنصهر والدماء تسيل بغزارة من صدره – فلما استيقظ مفزوعا وجد أن كل شيء هاديء من حوله في الميدان – ولكنه لم يستطع النوم وأحس بضيق – فمضى يتمشى إلى المكان الفاصل بين الجيشين حيث فجأة بدأت القذائف تنهال على المنطقة من حوله – ثم صوت انفجار شديد قريبا منه أسقطه من شدته – فعاد مسرعا إلى مخبأه الذي تركه فلم يجده – ووجده وقد حلت محله حفرة عميقة من أثر انفجار وقد تركت كل من فيه موتى مدفونين تحت أكوام التراب والحديد المصهور : تماما كما رأى في منامه !! ومن يومها وقد رأى هتلر أن حياته غير عادية !! وأنه قد اختير لمهمة كبرى !! فكان ما كان !!
بل وهناك بعض المرويات عن اكتشافات علمية يقف وراءها بعض الرؤى والأحلام !! ولكن لم يسعفنا التأكد منها بعد (يمكن البحث فيها لمن يشاء) مثل :
20-فريدريتش الأستاذ الالماني في علم الكيمياء الذي حاول طويلا التوصل لمعرفه التركيب الجزيئي لماده تراي ميثيل بنزين – وفي سنه 1890م استطاع أن يكتشف تركيب هذه المادة بعد أن جاءته رؤيا تركيبها الكيميائي في الحلم !! حيث رأى فريدرتش مجموعة من الصيغ الكيميائية تدور أمام عينيه على هيئة ثعبان – ثم رأى الثعبان يعض ذيله !! بينما انحصر في التجويف المحيط بالثعبان من الداخل : مكونا صيغة كيميائية تشير إلى تركيب مادة البنزين !!!
21-وأما جيمس وات مخترع محمل الكريات (وهو إطار يستخدم في الميكانيكا يحمل داخله كريات من الرصاص) فقد جاءته فكرة هذا الاكتشاف بعد أن رأى في المنام أنه يسير تحت أمطار ثقيلة تسقط عليه من كريات الرصاص !! فعندما بحث هذا الأمر بالتجربة وجد أن الرصاص المنصهر بالفعل إذا سقط من ارتفاع كبير يمكن أن يتحول إلى أجسام صلبة دائرية أو كرات صغيرة !!
22-وأما إلياس هاوس مخترع ماكينة الخياطة في القرن الثامن عشر فيقول : أنه حلم ذات ليلة بأشخاص يرمون رماحا – ولكل رمح فتحة في أعلاه : على هيئة شكل العين !! وقد أوحى له ذلك بالمكان المناسب لوجود الفتحة في إبرة الخياطة أثناء تصميمه لماكينة الخياطة !!
23-ومن الاستطلاعات التي ذكرتها الكتب المهتمة بتسجيل مثل هذه الأشياء – هو استطلاع عام 1969م الذي أجرته مجلة الصنداي تايمز اللندنية في شهر نوفمبر وأجاب عنه حوالي 25 ألف شخص – وقد علق على نتائجه الدكتور كريستوفر إيفانز وشارك في بعض تجاربه الدكتور ريختشافن من جامعة شيكاغو – وكان من أهم ما أشاروا إليه هو الفروقات بين الرجال والنساء !!
حيث كانت بعض نتائج الاستقراء كالتالي :
– حوالي ثلثي الناس ينامون من 6 : 8 ساعات يوميا
– الثلث الباقي ينام أكثر من 8 ساعات
– 4 % ينامون أقل من 4 ساعات
– النساء يتذكرن أحلامهن أفضل من الرجال
– الرجال يستمتعون بأحلامهم عموما أكثر من النساء
– تزداد الكوابيس في أحلام النساء عنها في أحلام الرجال
– تشيع أحلام القلق وكذلك التي تدور حول البحار لدى النساء أكثر من الرجال (40% : 27%)
– تزيد الأحلام الجنسية لدى الرجال عنها لدى النساء
– 25 % من المشتركين في الاستقراء قالوا أنهم حلموا بأشياء في المستقبل : وتحققت !
– 85 % من المشتركين تكررت لهم أحلام بعينها
– 25 % من الرجال حلموا بالعثور على وابل من النقود : بينما حلمت قلة من النساء بذلك
– 75 % من المشتركين يتكلمون أثناء النوم
– 25 % من هؤلاء : يمشون أثناء النوم !!
إلى هنا تنتهي جولتنا اليوم – وغدا سنرى :
هل دعائم العلم التجريبي نفسه : تجريبية ومادية ؟
أم فيها ما لا يمكن إثباته تجريبيا وماديا ورغم ذلك يتقبله العلماء ؟
تابعونا