كيف تتحكم الذات في مخها؟
عنوان الموضوع هو عنوان كتاب عالم فيسيولوجيا الأعصاب والطبيب الحاصل علي جائزة نوبل في الطب السير John Eccles، في هذا الكتاب يتبني وجه نظر ثنائية عن طبيعة الإنسان، فهو يضع في هذا الكتاب نموذج يري فيه أن الإنسان عبارة عن ذات (ما نسميه نحن العقل) ومادة (الأعصاب، القلب، الكبد، المواد العضوية في الجسم …) وهذا العقل ليس هو نفسه هذه المادة بل يمكن لهذا العقل أن يشكل و يتحكم في مادة الجسم معارضاً بذلك وجه النظر المادية الأخري التي تقول أن العقل البشري ما هو إلا نشاط المخ الفيزيائي، ضرب قي الكتاب العديد من الأمثلة والدراسات التي أثبتت أن العقل (المشاعر، النوايا، الأفكار، الذكريات، الآمال) يمكنه أن يغير من نشاط مادة المخ والجسم فبالتالي لا يمكن القول أن هذه الأشياء نتاج المادة لو هي نتاج المادة لن تستطيع أن تتحكم في المادة [1] هذه بعض الأمثلة علي قدرة العقل علي تغيير مادة الجسم:
– المخ والتأمل (الأبحاث في موضوع التأمل ليس عليها إتفاق من كل العلماء لكن سأعرض الأبحاث التي وضحت أن التأمل يغير المخ) :
التأمل هو تركيز الحالة العقلية أو الإنتباه في شيء ما بهدف الإسترخاء والحصول علي الراحة النفسية العديد من الدراسات أثبتت أن التأمل يغير المخ مثلاً
– دراسة منشورة علي دورية Frontiers in Psychology (Cognition) أثبتت أن أدمغة الأشخاص الذين يمارسون التأمل لمدة طويلة تحافظ علي حيويتها وتأخر شيخوختها بنسبة أكبر من الأشخاص الذين لا يمارسون التأمل، حيث وجد العلماء أن التأمل يؤثر علي بنية المخ ويمنع ضمور المادة الرمادية فيه – المادة الرمادية هي تجمعات أجسام الخلايا العصبية في المخ وهي أحد المكونات الأساسية للجهاز العصبي المركزي والمسئولة عن معالجة البيانات في المخ [2].
– في دراسة ثانية منشورة علي دورية Psychiatry Research: Neuroimaging تمت علي 16 شخص مارسوا التأمل لمدة 8 أسابيع بمعدل 27 دقيقة في اليوم، تم تصوير بنية المخ بواسطة جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي MRI قبل وبعد ممارسة التأمل، وجد الباحثون أن بعد جلسة التأمل، حدث تغير في بنية المخ حيث زادت كثافة المادة الرمادية في الحصين Hippocampus عضو داخلي في المخ تحت القشرة المخية مترابط مع عمليات التعلم والتذكر، وفي مناطق أخري كالمخيخ Cerebellum والقشرة الحزامية الخلفية Posterior Cingulate Cortex وقلت كثافة المادة الرمادية في اللوزة الدماغية Amygdala المنطقة المترابطة مع الشعور بالقلق [3].
– في دراسة ثالثة منشورة علي دورية PNAS إستخدم الباحثون فيها تقنية تسمي التصوير بعزم الإنتشار Diffusion Tensor Imaging، هي تقنية تسمح برؤية ومتابعة العمليات المجهرية التي تحدث في المخ علي المستوي الخلوي، وجد الباحثون أن التأمل أحدث تغيرات في المادة البيضاء في المخ، الإتصالات العصبية بين أجزاء المخ أصبحت أقوي، هذه التغيرات قد تكون نتيجة إعادة ترتيب محاور المادة البيضاء بشكل يزيد من قوة الترابط بينهم أو نتيجة زيادة مادة الميالين – المادة التي تحيط بالمحاور العصبية لبعض الخلايا العصبية – المادة البيضاء هي المكون الرئيسي الثاني للجهاز العصبي المركزي مع المادة الرمادية وهي عبارة عن الألياف العصبية التي تربط بين أجزاء المخ المختلفة – أكبر تأثير علي المادة البيضاء لوحظ في القشرة الحزامية الأمامية Anterior Cingulate Cortex منطقة المخ المترابطة مع تنظيم العواطف والتصرف [4].
– المخ/الجسم وتأثير البلاسيبو:
أثناء إجراء الإختبارات الطبية من أجل معرفة تأثير دواء معين علي الجسم، يقوم الأطباء أو العلماء غالباً بإحضار مجموعتين من الناس ويقارنون بينهما، مجموعة تأخذ الدواء الحقيقي، ومجموعة لا تأخذ الدواء الحقيقي بل تأخذ دواء وهمي (بلاسيبو) أي مادة ليس لها تأثير علاجي في الجسم (حبوب سكر مثلاً) علي أنه دواء حقيقي يعني يتم خداعهم، الطبيب يعطيهم حبوب سكر ويقول لهم هذا دواء مثلاً يعالج الربو خذه وصحتك ستتحسن، المفترض أن التغيرات الفسيولوجية التي يمكن أن تحدث يجب أن تحدث في أجسام الأشخاص الذين أخذوا الدواء الحقيقي الذي به المادة الفعالة التي تعالج مرض ما فقط، لكن أثناء إجراء هذه الإختبارات الأطباء كانوا يلاحظون دوماً تحسن الحالة الصحية للأشخاص الذين “إعتقدوا فقط” أنهم أخذوا دواء حقيقي هذا هو تأثير البلاسيبو، إعتقادك القوي في شيء وتفكيرك بشكل إيجابي فقط يمكن أن يحدث تغيرات فيسيولوجية يستفيد منها جسمك مشابهة تقريباً للتغيرات التي يحدثها الدواء الحقيقي، تأثير البلاسيبو غير مقتصر علي الأدوية فقط بل يمكن أيضاً إستخدامه في العمليات الجراحية، يعني يمكن خداع المريض بإجراء عملية جراحية وهمية له ومع ذلك تتحسن حالته الصحية، تأثير البلاسيبو أثبت فعاليته في تخفيف حدة أعراض الكثير من الأمراض مثل آلام العظام، إلتهابات القولون، إضطرابات الجهاز العصبي كالصداع النصفي، قرحات المعدة والإثني عشر فمثلاً
– في دراسة من أشهر الدراسات المنشورة علي دورية NEJM تم إحضار 180 من مرضي آلام الركبة وتم تقسيمهم عشوائياً إلي ثلاثة مجموعات، مجموعتين تم إجراء عمليات جراحية حقيقية لهم (تم التخلص من الغضاريف الفاسدة التي تسبب الألم في مفصل الركبة بطرق مختلفة)، ومجموعة واحدة تلقت عملية جراحية وهمية تم وخزهم فقط في مفصل الركبة بإبر وخزات صغيرة، ثم تابع الأطباء الحالة الصحية لهؤلاء المرضي علي مدار فترة من الزمن فوجدوا أن الأشخاص الذين تلقوا العلاج الوهمي يخبرونهم أن حدة الألم في مفصل الركبة قد قلت تماماً كالأشخاص الذين تلقوا العملية الجراحية الحقيقية [5] ترجع قدرة تأثير البلاسيبو علي تخفيف الألم إلي أنه يحدث تغيرات كيميائية في المخ فهو يحفز إفراز الأفيونات (مواد كيميائية تسكن الألم) من مناطق مختلفة في المخ ويقلل من النشاط العصبي في المناطق المترابطة مع الإحساس بالألم [6] فالتفكير الإيجابي والظن أنك قمت بإجراء عملية جراحية ستخفف من ألمك، أحدث تغيرات كيميائية في مخك خففت من ألمك بالفعل وأنت في الواقع لم تجري شيئاً.
– يوجد أيضاً دليل أنه لا يشترط أن تخدع المرضي حتي تحصل علي تأثير البلاسيبو لو جلس الطبيب مع المريض ووضح له كيف يعمل تأثير البلاسيبو وكيف أن التفكير الإيجابي يمكنه أن يخفف من حدة أعراض العديد من الأمراض، سيتم الحصول علي نفس النتائج التي تأتي بالخداع، فها هي دراسة منشورة علي دورية PLoS ONE تمت بدون خداع علي مرضي مصابين بمتلازمة القولون العصبى بالرغم من معرفتهم أنهم أخذوا علاجاً وهمياً (حبوب سكر)، أعراض هذا المرض قد خفت عندهم [7].
– المخ والعلاج الإدراكي السلوكي:
العلاج الإدراكي السلوكي هو طريقة من طرق العلاج النفسي تهدف لتدريب المرضي علي تغيير عقولهم بهدف التخلص من العديد من الأمراض النفسية كالإكتئاب والوسواس القهري، مع إجراء هذا العلاج تم رصد تغيرات عديدة في المخ بسببه فمثلاً
– في دراسة صغيرة منشورة علي دورية Translational Psychiatry جرت علي 26 مريض بإضطراب القلق الإجتماعي، تم تصوير أدمغتهم بواسطة جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI قبل وبعد فترة من العلاج الإدراكي السلوكي مدتها 9 أسابيع تم رصد إنخفاض كبير في شدة النشاط العصبي في منطقة اللوزة الدماغية المترابطة مع القلق وتم رصد صغر حجم الخلايا في هذه المنطقة أيضاً [8].
– في دراسة كانت عبارة عن مراجعة منهجية للعديد من الدراسات التي كانت تستخدم العلاج الإدراكي السلوكي في علاج العديد من الأمراض كالقلق، الفوبيا، الوسواس القهري وترصد ما يحدث في المخ بعد جلسات العلاج، وجدت هذه الدراسة أن العلاج الإدراكي السلوكي أحدث تغيرات في مناطق كثيرة من المخ كالقشرة الجبهية الحجاجية Orbitofrontal Cortex والقشرة الحزامية والحصين [9].
عالم الأعصاب والنفس المتخصص في العلاج النفسي Jeffrey Shwartz يلخص تبعات هذه الدراسات في كتابه المنشور علي الجمعية الأمريكية للطب النفسي فيقول [10]:
Conventional science has long held the position that “the mind” is merely an illusion, a side effect of electrochemical activity in the physical brain. This work argues exactly the opposite that, the mind has a life of its own, … the human mind is an independent entity that can shape and control the functioning of the physical brain.
علم الأعصاب التقليدي يفترض أن العقل هو نشاط المخ الكهروكيميائي، سأجادل في هذا الكتاب بالعكس تماماً، العقل له حياة خاصة به، العقل البشري كينونة مستقلة يمكنها أن تشكل وتتحكم في عمل المخ الفيزيائي.
– فهناك عالم نفسي وعالم فيزيائي وهناك تفاعل بينهما لكن العالم النفسي لا يمكن أن يختزل في العالم الفيزيائي، علم الأعصاب عاجز عن توضيح كيف يمكن للعقل (العالم النفسي) أن يختزل في المخ (العالم الفيزيائي) لم يضع أحد آلية تتحول بها النشاطات العصبية في المخ لأفكار ومشاعر وذكريات لأن النشاط العصبي (مادة) في حين الأشياء مثل الأفكار والذكريات والمشاعر (ليست مادة) لا يمكن التكلم عن ملكات العقل بمصطلحات فيزيائية، هذه حقيقة تعرف بالحس العام وأكبر علماء الفيزياء كان يدركون ذلك عالم الفيزياء Erwin Schrödinger الحاصل علي جائزة نوبل في الفيزياء يقول [11]:
Although I think that life may be the result of an accident, i don’t think that of consiousness. Consiousness can’t be accounted for in physical terms, for Consiousness is absolutely fundamental. It cannot be accounted for in terms of anything else.
بالرغم من إعتقادي أن الحياة يمكن أن تكون نتاج صدفة، إلا أنني لا أعتقد ذلك بالنسبة للوعي، الوعي لا يمكن التكلم عنه بمصطلحات فيزيائية، هو شيء أساسي في الوجود.
فلا يوجد شيء علي سبيل المثال إسمه ما كتلة أفكارك؟ أو ما زخم ذكرياتك؟ أو ما الكمية التي تحب بها الأم طفلها؟ فالحالات العقلية مترابطة فقط مع الحالات المخية لكن ليست منتجة منها، عندما تفكر يظهر نشاط عصبي في القشرة المخية هذا معناه أن هناك ترابط فقط بين عملية عقلية (التفكير) وعملية فيزيائية (النشاط العصبي) وليس معناه أن هذا النشاط العصبي هو ما خلڨ الفكرة، هذا هو كل المرصود في علم الأعصاب ترابطات عصبية للوعي Neural Correlates of Consiousness وليس مسببات عصبية للوعي، العقل يتفاعل مع المخ فقط وعادي جداً أن يتأثر العقل عند تدمير أو التأثير علي المخ فهناك تفاعل بينهما كما هو مذكور بالأعلي تدمير المخ سيدمر هذا التفاعل، المغالطة أن تقول إن هذا دليل علي أن المخ هو ما يخلق العقل، فهناك دليل كما هو مذكور بالأعلي أن التأثير في العقل يؤثر علي المخ أيضاً فهل هذا معناه أن العقل يخلق المخ؟ لا طبعاً فالعلاقة علاقة ترابط وتفاعل العقل يؤثر في المخ والعكس وليست علاقة إختزال العقل هو المخ [12].
المصادر :
[1] https://link.springer.com/book/10.1007/978-3-642-49224-2
[2] https://www.frontiersin.org/articles/10.3389/fpsyg.2014.01551/full
[3] https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S092549271000288X?via%3Dihub
[4] https://www.pnas.org/content/107/35/15649
[5] https://www.nejm.org/doi/full/10.1056/NEJMoa013259
[6] https://www.nature.com/articles/npp201081#ref-CR85
[7] https://journals.plos.org/plosone/article?id=10.1371/journal.pone.0015591
[8] https://www.nature.com/articles/tp2015218
[9] https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/19622682/
[10] https://psycnet.apa.org/record/2002-18935-000
[11] W. Moore A Life of Erwin Schrödinger, Canto edition, Cambridge University Press (1994) page 181.
[12] https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0301008207000123