“لأول مرة، العلماء يخلقون حمضًا نوويًا من ثمانية حروف”
هكذا عنونت إحدى الصحف الصفراء خبرًا لها .. كالعادة، يرى التطوريون الأحصنة في الغيوم
في فرقعة إعلامية جديدة كما عودنا الداروينيون وأذنابهم(*)، والذين استبشروا أكثر من المفروض بخبر نجاح صناعة حمض نووي DNA بنظام تشفير مكون من 8 قواعد آزوتية أو نيكليوتيدات nucleobases بمعهد ناسا للأبحاث، والحقيقة أنّ هذا الإنجاز جاء بعد سلسلة أبحاث وتجارب بدأت منذ سنوات -منذ أكثر من ثلاثين عام- على يد العالم Steven Albert Benner، حيث طرح فكرته حول رغبته في صناعة قواعد آزوتية صناعية سنة 1985 وقد كللت أبحاث كيميائيين آخرين ألهمهم Benner بطموحه بنوع من النجاح: حيث تمكن العلماء أخيرًا من صناعة ودمج 4 قواعد أو نيكليوتيدات صناعية بتركيبة كيميائية مختلفة في DNA = يرمز لها ب P و B ، والتي هي نظائر من البيورين purine ، و Z و S ، والتي هي نظائرها من البيريميدين pyrimidine، هذا الدوبلكس أو الشريط النووي المزدوج المصنع يتضمن 4 نيكليوتيدات طبيعية و 4 صناعية وهي#هندسة_وراثية وعملية دمج دقيقة بعد سلسلة من الأبحاث في التفاعلات الكيميائية المناسبة بامتياز، حيث تمت فيها دراسة نوع الروابط والأشكال والخصائص الكيميائية والفزيائية للشكل الفضائي 3D للوصول لنيكليوتيدة صناعية ناجحة تستطيع أن تندمج أخيرًا! وقد فشلت قبلها تجارب عديدة على قواعد لم تتمكن من الاندماج، يقول enner :
“لقد صنعنا عدة مئات من هذه الجزيئات لهذا النظام الوراثي الاصطناعي الجديد و #درسنا قدرتها على الارتباط بجزيئاتها الوراثية التكميلية”. (١)
?️ الشروط والقونين الفيزيائية اضطرت المهندسين الوراثيين والكيميائيين إلى مراعاة قدرة هذه النيكليوتيدات على استبدال بعضها البعض دون أن تُتلف الشكل الهندسي أو الحجم أو شكل الحلزون المميز المزدوج المميز لشريط DNA، يقول Benner مؤكدًا على ضرورة هذه التفاصيل الفارقة والدقيقة:
“تم تصميم حروفنا النوكليوتيدية المصنعة والإضافية مُحترِمَةً هذه الطريقة تمامًا”(١) ويقصد (بمراعاة هذه الشروط).
?️ كذلك تم تعديل أنزيمات طبيعية حتى تتمكن من قراءة dna الهجين أو المدجن هذا وتتقبل تركيبته الغريبة وهو T7 polymerase الذي تم تغيير بعض من أحماضه الأمينية مع مركبات أخرى ضرورية مختارة بعناية وذكاء لنجاح هدف مخطط له سلفًا وبعد فهم ودراسة، وقد أوكلت هذا التحدّي بتعبير benner لعالم آخر Andrew Ellington وفريقه بجامعة تكساس.
↩وهكذا نرى تظافر جهود فريق من العلماء الذين اتبعوا حذو القذة بالقذة التعليمات المعقدة والدقيقة للنظام التشفيري البيولوجي الطبيعي حتى ينجحوا في #محاكاة تقترب من التركيبة الطبيعية الموجودة سلفًا في DNA، والتي لم يحاولوا محاكتها فقط بل استعانوا بها كقاعدة ليبنوا عليها هذا الحمض النووي الهجين، ومنذ أن بدأت عليه الدراسات أسموه hachimoji DNA والكلمة hachimoji تعني رقم 8 باليابانية hachi للإشارة لعدد النيكليوتيدات به و moji تعني “أحرف” التشفير النيكليوتيدية.
⚠️#تفصيلات_علمية كهذه لا تُذكر عادة في المجلات والصحف والمنابر الإعلامية التطبيلية الآنيّة لجذب الانتباه وخلق جدل مفتعل والإفصاح عنها كافية جدًا (رغم أننا اختصرناها وذكرنا فقط بعضها بمقالنا هذا) لبيان الصعوبات والتعقيد الذي يواجه العلماء فقط ليحاكوا الطبيعة (ولا يحاكونها 100 % أصلًا) والكشف عن الجعجعة بلا طحن الذي تهواه المنابر الإعلامية ويستغله أهل الأهواء للتدليس على العوام من غير المتخصصين.
?️خلط الحابل بالنابل الآخر جاء أيضًا في بعض العناوين التي تكلمت عن ” الكشف” أو “خلق” أشكال حياة فريدة يُمكن أن تعطينا فكرة عن جينوم الفضائيين هكذا وبجرة قلم. فكما ربطت العالمة الأمريكية Lori Glaze نائبة مدير قسم بمركز غوادارد لرحلات الفضاء التابع لناسا، بين مقدمة ونتيجة تتماشى مع هدف الوكالة ومشاريعها مفادها أن توسيع نطاق التشفير الجيني ونجاحه مخبريًا قد يوسع التطلعات ويثري الأفكار حول أشكال حياة قد تكون مختلفة عن حمضنا النووي ذي 4 قواعد توجد بمكان ما في غياهب الفضاء (٢)، وهذا من قبيل التخمين فقط وإن كان صحيحًا منطقيًا لكان الحديث عنه هنا هو حديث بلا دليل ملموس فما صنعه العلماء أصلًا لا يكفي لانبثاق الحياة على الأرض الزاهرة بالحياة نفسها! ولا يفسر مصدر المعلومات بالجينات، فمحاكاة نظام التشفير وتركيب كودات إضافية بل النجاح في صياغة لغة برمجية -منقولة- لا يعني أنه يُفسر مصدر المعلومات والسيناريو البديع المكتوب فيها فضلًا عن تخليقها -وهنا يظهر بكل وضوح مدى تهافت دعوى الصدفوية في نشأة المركبات المعجزة للحياة-
↩فضلًا عن أن هذا الDNA نطاقه ضيق ومحصور بالمختبر يقول benner: إن hachimoji DNA غير مستقل ذاتي ولا يقوم بنفسه وهو يحتاج لإمداد مستمر وثابت بالقواعد الآزوتية تلك والبروتينات الخاصة به والمراقبة المخبرية المستمرة والدقيقة، ويضيف بتعبيره المميز: “وبما أنّ هذه المركبات الصناعية غير موجودة بالخارج فهذا الDNA لا يستطيع أن يذهب الى أي مكان إن هرب من المختبر” (١)
?خلاصة: الخبر كلّه يخص أحد إنجازات #الهندسة_الوراثية بعد تعاقب أجيال من البحوث والدراسات، فاللعبة كلها محاكاة من جديد ونقل وضبط وتعديل وتصميم واستفادة ذكية من نظام التشفير البيولوجي الموجود جاهزًا شاخصًا في الطبيعة وعلى أعلى مستوى من التعقيد والإبداع المعجز الملهم للمهندسين والعلماء، فبعد كل هذه السنوات من شحذٍ للطاقات والهمم والتقدم التقني والتكنولوجي مدفوعٍ بإرادة بشرية واعية عاقلة، نجح المهندسون البيولوجيون “فقط” في تكوين روابط تقابلية لقواعد هي أيضًا نظائر لأخرى طبيعية ودمجها في شريط الDNA، كما أن هذا الحمض النووي الهجين كما سلف الذكر لا يمكن أن يقوم بالمهمة التي أناطوه بها إلا في ظروف مخبرية جديدة خاصة ومراقبة ومعايرة مستمرة “فقط” لتقرأ شفرة بروتين ما يريدون تصنيعه لا أكثر.
↩هذه الأحماض النووية الصناعية قد تفيد في مجال صناعة الأدوية واللقاحات وعلاجات مرض السرطان، وقد يُستفاد منها للتخزين الرقمي مستقبلًا كما جاء في مواقع النشر.
↩أخيرًا هذه الفرقعات الإعلامية واستخدام مصطلحات مضخمة جدا “كنجحوا في خلق” ليست عن جديدة عليهم، فمنذ 2014 نشرت دراسات عن جينات صناعية ببكتيريا ولازالت البحوث مستمرة وغاية هذه الإنجازات هو استغلال طبي و#تجاري يفيد البشرية واحتياجاتها و #الشاهد هنا هو: أن هذا لا علاقة له بتفسير فضلًا عن إنشاء أحد أهم مركبات الحياة الجزيئية! و#التشفير نفسه بهذا الDNA هو لتركيبة سلسلة الأحماض الأمينية لبروتين موجود سلفًا تم تعديله بنسبة معينة وحذر شديد بحسب حاجيات وهدف المهندس بمختبره؛
و#الحاصل أنّ كل هذا لا يؤكد سوى ضرورة وجود علم عظيم وقصد وقدرة لا نهائية لوصف وتفسير هذه الجزيئات الميكروسكوبية الغاية في التعقيد والإلهام والإتقان، وليس الامر صدفة وخبط عشواء كما يناقض الملاحدة أنفسهم وهم لا يشعرون حين يطبلون ويفخرون لهذه الإنجازات التي يحرفونها.