لويس باستور الجزء الثالث و الأخير
تقديم المطاعيم
في أوائل سبعينيات القرن التاسع عشر، كان باستور قد اكتسب شهرة كبيرة واحترامًا في فرنسا، وفي عام 1873م انتُخِب عضوًا منتسبًا إلى الأكاديمية الطبية. وبالرغم من ذلك، كانت المؤسسة الطبية مترددة في قبول نظريته (جرثومية المرض)؛ ويرجع ذلك أساسًا إلى أنه كيميائي. ولكن مع ذلك، في العقد التالي، قدّم باستور المبدأ العام للمطاعيم وأسهم في تأسيس علم المناعة.
جاء أول اكتشاف مهم من قبل باستور في دراسة التطعيم عام 1879م، وكان يتعلق بمرض يُسمّى كوليرا الدجاج (اليوم تصنف البكتيريا المسببة لهذا المرض في جنس باستوريلا). قال باستور: “الحظ لا يحالف إلا العقول المهيَّأة”، كذلك كانت ملاحظته غير مخطط لها، حين لاحظ أن زراعة جراثيم كوليرا الدجاج تحت ظروف معملية –مختلفة عن ظروف جسم العائل-، قد يُفقدها قدرتها على إحداث المرض ولا يتبقى لها إلا صفات مرضية مُوهونَة (attenuated). فطعّم الدجاج بالبكتيريا الموهونة وبيّن أن الدجاج أصبح مقاومًا للسلالة المسببة للمرض ذات الفَوعة (virulence). وبعد ذلك، وجّه باستور جميع أعماله التجريبية نحو مسألة التمنيع وطبَّق هذا المبدأ على العديد من الأمراض الأخرى.
عام 1879م بدأ باستور بدراسة الجمرة الخبيثة، في ذلك الوقت، قتل وباء الجمرة الخبيثة في فرنسا وفي أجزاء أخرى من أوروبا عددًا كبيرًا من الغنم، وكان يهاجم البشر أيضًا.
أعلن الطبيب الألماني روبرت كوخ Robert Koch فرز عصية الجمرة الخبيثة، وأكد ذلك باستور. فقدم كل من روبرت كوخ وباستور -بشكل مستقل- أدلة تجريبية نهائية أثبتت أن عصية الجمرة الخبيثة كانت هي المسؤولة عن العدوى. وأدى ذلك إلى ترسيخ نظرية جرثومية المرض، لتصير فيما بعد أساس علم الأحياء الدقيقة الطبية “microbiology”.
أراد باستور تطبيق مبدأ التطعيم على الجمرة الخبيثة. فحضّر عدة سلالات موهونَة من البكتيريا بعد تحديد الظروف التي تُفقدها فَوعتها. وفي ربيع عام 1881م حصل على دعم مالي، معظمه من المزارعين، لإجراء تجربة عامة واسعة النطاق للتمنيع ضد الجمرة الخبيثة. وأُجريت التجربة في بويلي لو فورت Pouilly-le-Fort الواقعة في ضواحي باريس الجنوبية، حيث قام باستور بتمنيع 70 حيوانًا من حيوانات المزرعة وكانت النتيجة نجاحًا باهرًا. وتضمنت إجراءات التطعيم حقنتين بينهما 12 يومًا بمطاعيم مختلفة القوى، يُعطى مطعوم واحد، من سلالة ضعيفة الفوعة، لنصف الغنم –ويترك النصف الآخر دون تطعيم-، ثم يعطى مطعوم ثانٍ من سلالة أقوى فوعة من الأولى. وبعد أسبوعين من التطعيم بهذه المطاعيم الأولية، حُقِن كل الغنم -المطعَّم وغير المطعَّم) بالسلالة ذات الفوعة من الجمرة الخبيثة، وفي بضع أيام مات جميع الغنم غير المطعَّم، ونجى جميع الغنم المطعَّم. أثبت هذا لكثير من الناس أن عمل باستور كان ناجحًا حقًّا.
بعد نجاح تجربة التلقيح ضد الجمرة الخبيثة، اهتمّ باستور بالأصول المِكروبية للمرض.
إن دراسته الحيوانات المصابة بالمِكروبات الممرضة، ودراسته الآليات المكروبية التي تسبب آثارًا فسيولوجية ضارة للحيوانات، قد جعلتْ منه رائدًا في مجال علم الأمراض المعدية.
ويُقال كثيرًا إن الجراح الإنجليزي إدوارد جينر Edward Jenner اكتشف التلقيح وبأن باستور صنع اللقاحات. وهذا صحيح، فبعد 90 عامًا -تقريبًا- من بدء جينر التلقيح ضد الجدري، قدّم باستور لقاحًا آخر -أول لقاح ضد داء الكَلَب-؛ إذ كان قد عزم على مواجهة مشكلة داء الكَلَب عام 1882م، وهو عام قُبِلَ في الأكاديمية الفرنسية. كان داء الكَلَب مرضًا مروّعًا ومفزعًا، أعمل الخيال الشعبي لقرون بسبب غموضه والخوف الذي أنشأه. ومواجهته كانت آخر إنجاز لباستور في حياته.
توقّع باستور أن العامل الذي تسبب في داء الكلب هو مِكروب (تبيّن لاحقًا أنه فيروس، كائن غير حي). كان أصغر مما يمكن رؤيته تحت مجهر باستور؛ لذلك تطلبت تجارب هذا المرض منهجًا جديدًا. فاختار باستور إجراء تجاربه على الأرانب، ونقل العامل المعدي من حيوان إلى آخر عن طريق الحقن داخل الدماغ، ولإضعاف هذا العامل غير المرئي، قام بتجفيف حبال الحيوانات المصابة الشوكية حتى أصبح العامل–تقريبًا-عديم الفوعة. وعلم لاحقًا أنه لم ينتج شكلًا موهونًا من العامل، بل حيّده (ظن باستور أن تحييد العامل وفقدانه قدرته على الإمراض يعني أنه مات؛ لظنه أن العامل كائن حي). وهكذا، دون قصد، أنتج باستور، بدلاً من المِكروبات الموهونة، عاملًا مُحَيَّدًا (يلغي القدرة على الإمراض)، ففتح الطريق أمام صنف ثانٍ من اللقاحات، تُسمّى اللقاحات المُعَطَّلة (Inactivated vaccines).
في 6 يوليو 1885م، قام باستور بتطعيم جوزيف مايستر، صبي ذي تسع سنوات عضّه كلب مكلوب (مصاب بداء الكَلَب). كان اللقاح ناجحًا جدًا لدرجة أنه جلب المجد والشهرة فورًا لباستور. أُنقِذ مئات ضحايا العض في جميع أنحاء العالم باستعمال لقاح باستور، وبذلك بدأ عصر الطب الوقائي. ثم أُطلقت حملة جمع أموال دولية لبناء (معهد باستور) في باريس، وافتُتِح في 14 نوفمبر 1888م.
آثار عمل باستور
إن الآثار النظرية والعملية لعمل باستور هائلة. قال باستور مرة: “لا يوجد علوم بحتة وعلوم تطبيقية، لكنْ يوجد علم وتطبيق هذا العلم “. لذلك، كان كلما أنشأ أساسًا نظريًّا لعملية معينة، بحث في طرائق لتوسعة وتنمية التطبيقات الصناعية المرتبطة به؛ فكانت النتيجة حصوله على عددٍ من براءات الاختراع.
لكن، لم يتسنَّ لباستور وقت كافٍ للبحث في جميع الجوانب العملية لنظرياته العديدة. وإنّ من أهم الآثار النظرية لأبحاثه الأخيرة، التي انبثقت عن إضعافه المِكروبات لإنتاج لقاحات، مفهومَ أن الفَوعة ليست سمة ثابتة بل متغيرة -خاصية يمكن فقدانها ثم استردادها لاحقًا-، يمكن إضعاف الفَوعة، لكن باستور توقّع أنه يمكن زيادة شدتها أيضًا، وكان يعتقد أن هذه الزيادة هي ما يؤدى إلى انتشار الأوبئة.
كان باستور أول من لاحظ تغيّر شدة الفوعة، وما زال هذا المفهوم إلى اليوم وثيق الصلة بعلم الأمراض المعدية، خاصة بما يتعلق بفهم ظهور الأمراض، من مثل اعتلال الدماغ الإسفنجي البقري (BSE)، ومتلازمة الجهاز التنفسي الحادة (SARS)، ومتلازمة نقص المناعة المكتسب (AIDS).
قال باستور: “كلّما درست الطبيعة أكثر، ازدادت دهشتي من صنع الخالق”.
سبحان من {علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 5]، وبين له عالمًا من المخلوقات لم يتصور إمكان وجوده من قبل، فيسبح بحمده. كلما ازداد علم الإنسان تبين له أن ما يجهله في هذا العالم أكثر بكثير مما يعرفه.
ترجمة: سارة بوخرص.
مراجعة: عبيد الله صالحاني.
مراجعة كيميائية: محمود زناتي.
مراجعة طبية: بلقيس عبد الرحمن.
تقويم لغوي: لانا محمد.
مراجعة لغوية: عبد المجيد قدور.