طبّق باستور بسهولة معرفته بالميكروبات والتخمير في صناعات النبيذ والبيرة في فرنسا، مما أنقذ الصناعات من الانهيار بعد مشاكل الإنتاج والتلوث التي حدثت أثناء التصدير، ففي عام 1863، استجابةً لطلب حاكم فرنسا، نابليون الثالث، درس باستور تلوث النبيذ وأظهر أنه ناتج عن الميكروبات. ولمنع التلوث، استخدم باستور إجراءً بسيطًا: قام بتسخين النبيذ إلى درجة حرارة 50-60 مئوية (120-140 فهرنهايت)، في عملية تعرف الآن عالميًا بالبسترة. يندر استعمال البسترة اليوم ولكنها تطبق على عدد من الأطعمة والمشروبات، خاصة الحليب.
بعد نجاح باستور مع النبيذ، ركز دراسته على البيرة، فمن خلال تقديم طرائق عملية للسيطرة على تخمير البيرة، استطاع توفير منهجية عقلانية لصناعة التخمير. كما ابتكر طريقة لتصنيع البيرة منعت تدهور المنتج خلال فترات النقل الطويلة على السفن.
نقضه التولد التلقائي
كان يُنظر للتخمر والتعفن من قبل بعض العلماء في الغرب على أنهما ظاهرتان تلقائيتان، وهو تصور ينبع من الاعتقاد القديم بأن الحياة يمكن أن تولد تلقائيًا.
خلال القرن الثامن عشر، تابع النقاش عالمُ الطبيعة الإنجليزي والكنيسة الكاثوليكية الرومانية جون توربير فيل نيدهام John Turberville Needham والفرنسي جورج لويس لوكلير كونت دي بوفون Georges-Louis Leclerc count de Buffon، وفي حين أيَّدَ كلاهما فكرة التوليد التلقائي، أكد الفيسيولوجي والطبيب الإيطالي لازارو سبالانزاني Lazzaro Spallanzani استحالة نشوء الحياة تلقائيًّا من المادة الميتة.
في عام 1859م، العام الذي نشر فيه عالم الطبيعة الإنجليزي تشارلز داروين كتابه عن أصل الأنواع، قرر باستور حسم النزاع. كان واثقًا أن نظريته الجرثومية تعارض الإيمان بالتولد التلقائي. وقد هاجم باستور المشكلة باستخدام إجراء تجريبي بسيط، فقام بتعقيم وغلي مرق اللحم في قارورة “بجعة”، لها رقبة طويلة منحنية ملتوية لا تسمح لجزيئات الغبار والملوثات الموجودة في الهواء بالوصول إلى جسم القارورة بسهولة، فإذا أُزيل عنق القارورة بعد غلي المرق، فصار معرّضًا للهواء، أصبح معكّرًا وغائمًا بعد فترة، مما يشير إلى تلوثه بميكروبات سقطت فيه، هذا أثبت أنه لا يوجد ما يدعى بالتولد التلقائي، إذ لو ترك عنق القارورة بعد الغلي على ما هو عليه فلم يعرض المرق للهواء، ظلّ معقّمًا، لأن وصول الميكروبات إليه يكون أصعب بسبب شكل العنق. هذه التجربة حسمت المشكلة للفلسفية لأصل الحياة في الغرب في ذلك الوقت، وأسست أيضًا أرضية صلبة لعلم الجراثيم الجديد، الذي اعتمد على تقنيات مثبتة للتعقيم.
[للمزيد، راجع: رحلة اليقين ٢١: نظرية التطور، نظرية داروين … بإنصاف]
عمله مع دود القز
في عام 1862، انتُخب باستور في أكاديمية العلوم، وفي العام التالي عُيِّن أستاذًا للجيولوجيا والفيزياء والكيمياء في مدرسة الفنون الجميلة (École des Beaux-Arts). بعد ذلك بوقت قصير، وجّه باستور اهتمامه إلى أزمة دود القز في فرنسا، ففي منتصف القرن التاسع عشر، هاجم مرض غامض مشاتل دود القز الفرنسية، ولم يعد ممكنًا إنتاج بيوض دود القز، ولا استيرادها من بلدان أخرى؛ لأن المرض كان قد انتشر في جميع أنحاء أوروبا، وغزا منطقة القوقاز في أوراسيا، وأيضًا الصين واليابان. بحلول عام 1865م، دُمِّرَتْ صناعةُ دود القز كلُّها -تقريبًا- في فرنسا، وبدرجة أقل في بقية دول أوروبا الغربية. لم يكن باستور يعرف شيئًا عن دود القز، لكنه قَبِل استجابةً لطلب معلمه السابق دوماس، فتولَّى باستور مسؤولية البحث عن حل للمشكلة، وقَبِل التحدي، واغتنم الفرصة لمعرفة المزيد عن الأمراض المعدية. وسرعان ما أصبح من مُربيِي دود القز الخبراء، وحدد الكائنات التي تسببت في مرض دود القز. وبعد خمس سنوات من البحث، نجح في إنقاذ صناعة الحرير، من خلال عزل دود القز السليم عن ذلك المريض، ثم الحفاظ على بيوضه من التلوث بالكائنات المسببة للمرض. في سنتين، اعتُمِدت هذه الطريقة في جميع أنحاء أوروبا، وما زالت تستعمل حتى اليوم في البلدان المنتجة للحرير.
في عام 1867م، استقال باستور من مَهامه الإدارية في المدرسة العليا للأساتذة، وعُيِّن أستاذًا للكيمياء في جامعة السوربون في باريس. استمر في أبحاثه العلمية على الرغم من إصابته بشلل نصفي في عام 1868م.
دراسة باستور لديدان الحرير شكّلت بداية لمسألة الأمراض المعدية، فبعدها صار مدركًا تعقيد عمليات العدوى. واعتياده على الدقة والثبات في التجارب المعملية، جعله في حيرة من أمره تجاه التنوع الكبير الموجود في أصناف الحياة الحيوانية، الذي لاحظه في اختلاف استجابة دود القز للأمراض باختلاف العوامل الفسيولوجية والبيئية. وبالبحث في هذه المسائل، قدّم باستور ممارسات لعلم الأوبئة، خدمته جيدًا بعد بضع سنوات، في تعامله مع أمراض الحيوان والإنسان.