منكوشات تطورية – جائزة المليون دولار – متابعة لمأساة الموارد المشتركة مع التطور ومع المثالين السادس والسابع : النباتات والحشرات المتعاونة
حيث نواصل لليوم الرابع على التوالي استعراض أمثلة جديدة على مأساة الموارد المشتركة أو مأساة المشاع مع التطور من كتاب ( اختراق عقل ) للدكتور أحمد إبراهيم ( عضو في مبادرة الباحثون المسلمون ) وكيف أنها معضلة حقيقية عجز التطوريون عن تأليف أو اختراع أي حل أو تفسير لها لأنها تستوجب تدخل عليم وحكيم وتقدير تام لأقل قدر من الموارد الذي إذا تم اجتيازه وتخطيه من الأفراد الأقوى أو الأنانيين أو الاستغلاليين يهلك الجميع
لن نطيل عليكم لأن المنشور اليوم فيه تفاصيل كثيرة ومثيرة ( وخاصة مع الحشرات كما سنرى ) – ونحن نضعه برمته وبأكمله بين يدي أكابر الصفحات العلمية العربية المروجة للتطور لحثهم على البحث بالفعل ليكون اسمهم على مسماهم – وكما سنرى في منشور الغد لباحثين أجانب استوقفتهم هذه المعضلة بالفعل !!
يقول الدكتور أحمد إبراهيم :
——————————-
المثال السادس : النباتات والضوء والغذاء
التنافس بين النباتات في الوصول إلى الضوء واستهلاك كل الطاقة المتاحة في ذلك مما يؤدي إلى عدم وجود طاقة كافية لإتمام عملية التكاثر وإنتاج البذور(1) فيزول بذلك النوع كله.
ففي البداية قضت السلالة الاستغلالية التي تحجب الضوء عن الآخرين على السلالة المتعاونة الأقل طولاً فحجبت عنها مصدر الضوء، ثم عجزت السلالة الاستغلالية عن إبقاء النوع لأنها ضيعت كل طاقتها في بناء السيقان الطويلة فلم تجد ما تنتج به البذور فتفنى هي الأخرى فتقع صورة أخرى من مأساة المشاع. وإن كان المورد هنا لم ينفد لأن الضوء ما زال موجوداً لكن إمكانية الوصول إليه هي التي نفدت فأدت إلى النتيجة نفسها.
ونفس ما يحدث في التنافس للوصول للضوء بين السيقان يحدث في التنافس في الوصول للماء بين الجذور، فبعضها يمنع عن البعض الآخر فرصة الوصول للماء وهذا كله يمكن منعه بمنع وجود الاستغلالي من البداية، كمنع مَن يحاول الوقوف من الجمهور أثناء مشاهدة مباراة كرة قدم لأنه لو وقف أحدهم فسيفرض على الجميع أن يقفوا لكي يتمكنوا من المشاهدة وهذا ليس فيه تحسين للرؤية لكنه فيه مشقة على الجميع أو منع الرؤية على مَن لا يستطيع الوقوف، فلو جلسوا جميعاً أو وقفوا جميعاً لكانت النتيجة سواء. ولذلك يجب منع هذا من البداية لكي يتمكن الجميع من المشاهدة بدون مشقة.
ولكن الطفرات لا يمكنها معرفة المستقبل ولا يمكنها منع أحد الاحتمالات فهي تأتي بكل شيء مُمكن جينياً بدون استثناء. فوجب وجود العليم الحكيم الذي يدبر هذا الأمر ويخلق ما يشاء وإلا ففناء كل النباتات بهذه الصورة كان أمراً ممكناً جداً، وبالتأكيد سيتبع فناء النباتات فناء الحيوانات والطيور وكل شيء، لأن النباتات هي مصدر تخزين الطاقة على الأرض لباقي الكائنات الحية وهي مصدر الأوكسجين أيضاً.
فما أدق هذا النظام المحكم الذي وضعه الله والذي يؤدي أدنى تلاعب فيه لعواقب لا يتخيلها أحد، وهذا كله ينافي السيناريو التطوري القائم على التلاعب المستمر بالنظام البيولوجي. والقائم على افتراض أنه يتحمل كل هذا دون أن ينهار. بل وافتراض أن هذا التلاعب والخبط العشوائي هو الذي يدفع عجلة التطور إلى الأمام.
—————————-
المثال السابع : الحشرات المتعاونة كالنمل والنحل والدبابير
الحشرات المتعاونة مثل النمل والنحل والدبابير، فمثل هذه الأنواع معلوم للجميع أنها مجتمعات تعج بصور التعاون المتنوعة وكل صفة من هذه الصفات التعاونية يمكن تصور وقوع المأساة فيها بظهور غير المتعاوِن. ومن أكثر الأشياء التي ركزت عليها الدراسات التجريبية هي استجابة الإناث العاملات لمادة كيميائية تفرزها الملكة تسمى فيرمون تمنع بها تنشيط التبويض في مبايض تلك الإناث العاملات، لأن الأنثى الوحيدة التي يحق لها الإنجاب في خلية النحل أو النمل هي الملكة فقط، وهذا يكون لمصلحة الخلية كلها لأن النسل تكون صفاته أقوى وتوفر العاملات طاقتها في رعاية هذه البيوض حتى يخرج الصغار ويأخذوا أدوارهم داخل الخلية.
فوجود طفرة تجعل العاملات لا يستجبن لهذا الفيرمون هو أمر وارد جداً ولو حدث هذا لفسدت الخلية كلها لأن صغار الملكة لن يجدوا مَن يرعاهم وصغار العاملات سيخرجون بصفات غير جيدة لا تمكنهم من البقاء خصوصاً في ظل تصاعد الصراع بين أبناء كل عاملة والأخرى وأيضاً الصراع بين أبناء الملكة إن وُجدوا. فيخسر الجميع بذلك وتحدث المأساة وينقرض النوع كله، وهنا تم الكشف عن عائق أو آلية إضافية تمنع من وقوع المأساة وهو Pleiotropy أو الجينات متعددة النمط الظاهري(2)
وهي عبارة عن خاصية موجودة في بعض الجينات حيث يكون لها أكثر من تعبير جيني في الوقت نفسه، وكل تعبير يُنتج صفة لا علاقة لها بالأخرى، بمعنى أن الجين نفسه تكون ترجمته في الجسم عبارة عن صفتين وليس صفة واحدة، والصفتان لا علاقة لإحداهما بالأخرى.
فهنا وجدوا أن الجين المسؤول عن الاستجابة للفرمون في عاملات النحل الذي تصدره الملكة؛ هو نفسه الجين الذي ينشط المبايض في العاملات، فإن حدثت طفرة تُفقد العاملات الاستجابة لهذه الأوامر الملكية فسيفقدن في اللحظة نفسها القدرة على تنشيط التبويض في مبايضهن، وبذلك يتجنب النحل وقوع المأساة بوجود هذا (العائق)(3) أو هذا الحاجز أو هذه الآلية الإضافية، وبدلاً من أن يسأل التطوريون أنفسهم لماذا ارتبطت هاتان الصفتان بالذات بجين واحد من بين ما لا يحصى من الصفات، فرحوا باكتشاف عائق يفسر لماذا لم تقع المأساة في هذه الصفة في النحل بالرغم من أنه عائق لا يمكن تعميمه على غير هذه الحشرات الاجتماعية، بل ولا يمكن تعميمه على كل الصفات التعاونية في النحل نفسه.
ولو كانوا يعقلون لعلموا أن هذا من صنع العليم الحكيم الذي يعلم ما الذي سيترتب على فقد الاستجابة فربَطه بما يُجنب النحل المأساة. ولكن القوم لا يعقلون، ومع ذلك فنحن يمكننا أن ننسب وجود هذا العائق لإرادة الله عز وجل لأن التدبير والعلم بعواقب الأمور ودقة الصنعة واضحة فيه، وهم ينسبون هذا العائق إلى المصادفة البحتة ثم يأتي الانتخاب الطبيعي ليبارك الأمر ويدعم وجود هذا العائق. لكن لسوء حظهم أن الطفرات والانتخاب الطبيعي يؤيدان اختراق العائق في الوقت نفسه فتخرج بذلك آليات التطور من المشهد بالكلية كما سأبين هذا بشكل مفصل لاحقاً بإذن الله.
فالخلاصة أن مأساة المشاع عامة في النظام البيولوجي، وأن نتيجتها الزوال التام للنظام كله، وأنه لا يمكن منعها إلا بتدخل من عليم حكيم، فهذا يجعلنا نعلم أن الحياة لا يمكن تفسيرها إلا بنسبتها إلى الخالق العظيم.
—————————-
المراجع :
(1) Falster, D.S. and Westoby, M. (2003) Plant height and evolutionary games. Trends Ecol. Evol. 18, .337–343.
(2) Foster, K.R., Shaulsky, G., Strassmann, J.E., Queller, D.C.&Thompson, C.R.L. (2004). Pleiotropy as a mechanism to stabilise cooperation. Nature 431: 693–696
(3) العائق أو الآلية الإضافية: هو الحاجز الذي يحول بين النقطة التي لو وصلت لها تلك المجموعة من الكائنات الحية فستقع المأساة، وبين الصفات الاستغلالية التي تدفع النظام البيولوجي باتجاه المأساة، فهو بمثابة المنقذ للمجتمع ككل من الهلاك والسبيل الذي يتفادى به المجتمع الانهيار.