مجزرة سريبرينيتشا
صفحةٌ مظلمة في تاريخ البوسنة والهرسك الحديث
مذبحة سريبرينيتشا، هي مذبحةٌ ارتكبتها القوات الصربية البوسنية في سريبرينيتشا، بلدة في شرق البوسنة والهرسك، في شهر يوليو من عام ١٩٩٥ ، وأسفرت عن استشهاد ٧٠٠٠ من الفتيان والرجال البوسنيين المسلمين. وبالإضافة إلى عمليات القتل، فقد طُرد أكثر من ٢٠,٠٠٠ مدني من المنطقة في عملية تطهير عرقي. وساعدت المذبحة التي كانت أسوأ حلقة من حلقات القتل الجماعي داخل أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية في تحفيز الغرب للضغط من أجل وقف إطلاق النار، والذي انتهت بوقفه ثلاث سنواتٍ من الحرب على أراضي البوسنة. لكنّها برغم ذلك تركت ندوبًا عاطفية عميقة في الناجين، وخلقت عوائقَ دائمةً للمصالحة السياسية بين الجماعات العرقية في البوسنة.
وخلصت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة (والمُنشأةُ قبل المجزرة للتدقيق في السلوك العسكري المستمر) إلى أن عمليات القتل في سريبرينيتشا، والتي تفاقمت بسبب الطرد الجماعي للمدنيين البوسنيين، قد بلغت حدّ الإبادة الجماعية. وقد ألقت المسؤولية الرئيسية على كبار الضباط في جيش صرب البوسنة، لكن الأمم المتحدة (UN) ومؤيديها الغربيين قبلوا أيضًا جزءًا من اللوم لفشلهم في حماية الرجال والنساء والأطفال البوسنيين في سريبرينيتشا، التي أعلنها مجلس الأمن الدولي رسميًا في عام ١٩٩٣ “منطقة آمنة”. وقد كتب الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان في مراجعة داخلية نقدية عام ١٩٩٩ قائلًا: “من خلال الخطأ وسوء التقدير وعدم القدرة على التعرف على نطاق الشر الذي يواجهنا، فشلنا في القيام بدورنا للمساعدة في إنقاذ سكان سريبرينيتشا من حملة القتل الجماعي الصربية [البوسنية] “. وعلى الرغم من أن صربيا لم تكن متورطة قانونًا في المجزرة، فقد أقرت الجمعية الوطنية الصربية في عام ٢٠١٠ قرارًا تضمّن اعتذارًا خجولاً عن فشلها في منع عمليات القتل.
خلفية
استهدفت القوات الصربية البوسنية سريبرينيتشا ابتداء من عام ١٩٩٢ في حملة للسيطرة على كتلة من الأراضي في شرق البوسنة والهرسك. وكان هدفهم النهائي ضمَّ هذه الأراضي إلى جمهورية صربيا المجاورة (التي شكّلت إلى جانب الجبل الأسود مجموعة من الاتحاد الفدرالي اليوغوسلافي). وللقيام بذلك حسب اعتقادهم، كان طرد سكان الإقليم البوسنيين الذين عارضوا الضم واجبًا. وفي شهر آذار / مارس من عام ١٩٩٥، وجَّه رادوفان كارادزيتش، رئيس جمهورية صربسكا المستقلة ذاتيا (جمهورية صرب البوسنة)، قواته العسكرية إلى “خلق حالة لا تطاق من انعدام الأمن التام مع عدم وجود أمل في المزيد من البقاء أو الحياة لسكان سريبرينيتشا”. وبحلول مايو / أيار من العام ذاته، فرض طوق من الجنود الصرب البوسنيين حظراً على المواد الغذائية والإمدادات الأخرى مما دفع معظم المقاتلين البوسنيين في البلدة إلى الفرار من المنطقة. وفي أواخر شهر يونيو، وبعد بعض المناوشات مع عدد قليل من المقاتلين البوسنيين المتبقين، أمرت القيادة العسكرية لصرب البوسنة رسميًّا بالعملية التي سميت باسم كريفاجا-٩٥ رسميًّا، والتي بلغت ذروتها في المذبحة.
مهاجمة سريبرينيتشا
بدأ الهجوم في السادس من يوليو لعام ١٩٩٥، مع تقدم القوات الصربية البوسنية من الجنوب وحرق منازل البوشناق على طول الطريق. وقد فر آلاف المدنيين وسط الفوضى والرعب من سريبرينيتشا إلى قرية بوتوتشاري القريبة، حيث تمركزت قوة من حوالي ٢٠٠ عنصر من قوات حفظ السلام الهولندية. وقد استسلم بعض الهولنديين بينما انسحب آخرون. ولكن لم يطلق أحد النار على القوات الصربية البوسنية المتقدمة. في الحادي عشر من شهر يوليو / تموز، تجول القائد العسكري للصرب البوسني راتكو ملاديتش في سريبرينيتشا قائلًا في بيان مسجل في فيلم لصحفي صربي: “نعطي هذه المدينة للأمة الصربية … حان الوقت للانتقام من المسلمين”.
في ليلة الثاني عشر من شهر يوليو، انطلق طابور من أكثر من ١٠,٠٠٠ رجل بوسني من سريبرينيتشا عبر غابة كثيفة في محاولة للوصول إلى بر الأمان. واستخدم ضباط صرب البوسنة أجهزة الأمم المتحدة ابتداءً من صباح اليوم التالي ليقدّموا وعودًا كاذبةً بالأمن لتشجيع الرجال على الاستسلام؛ واستسلم الآلاف أو قُبضَ عليهم، وأُعدم العديد منهم في وقت لاحق. أجبر الإرهابُ الصربي الذي تضمن عمليات القتل والاغتصاب البوسنيينَ الآخرينَ على الخروج من بوتوتشاري في ذلك اليوم. ووُضعت النساء والأطفال والشيوخ على متن الحافلات (التي جُلب بعضها من صربيا) ونُقلوا إلى الأراضي التي يسيطر عليها البوسنيون. ونُقل الرجال والفتيان في يومي الـ١٢ و الـ١٣ من شهر يوليو إلى مواقع احتجازٍ مختلفة، معظمها في براتوناك.
وقعت بعض عمليات القتل مساء اليوم الـ ١٢ من شهر يوليو / تموز، لكنّ عمليات الإجلاء الجماعي للذكور البوسنيين، معصوبي العينين في غالب الأحيان، إلى مواقع الإعدام قد بدأت بشكل جدّي مساء الـ ١٣ من شهر يوليو / تموز. وكانت الوجهات في الأساس شمال سريبرينيتشا، على شريط يبلغ طوله حوالي ٣٥ ميلاً (٥٥ كم) بجانب نهر درينا الذي يمثل جزءًا كبيرًا من حدود البوسنة مع صربيا. وقد تضمنت هذه الوجهاتُ ملعبًا لكرة القدم في براتوناك، والعديدَ من المروج والحقول بالقرب من فلاسينيكا ونوفا كاسابا، ومستودعًا في كرافيكا، ومصنعًا في كاراكاج، ومدرسةً في أوراهوفاتش، وطريقًا ترابيًّا في وادي سيرسكا، ومركزًا ثقافيًّا في بيليكا. واستمرت عمليات الإعدام، على أقل تقدير، حتى الـ١٦ من شهر يوليو / تموز الذي أبلغ فيه عن قُتل مئات الأشخاص، حسبما ورد، في مزرعة حكومية في قرية برانييفو. وعلى الرغم من أن القوات الصربية البوسنية كانت مسؤولة في المقام الأول عن عمليات القتل، إلَّا أنَّ مشاركةَ وحدةِ شرطةٍ صربيةٍ في إعدام ستة من البوشناق كانت قد سُجِّلت على شريط فيديو. واكتُشف لاحقًا أن العديد من ضحايا المذبحة قد رُبطت أذرعهم وأقدامهم، وكان التمثيل بالجثث بيّنًا على العديد منها.
ما بعد الكارثة
كان العدد الإجمالي للرجال والصّبيان الذين ذُبِحُوا محل اختلاف وجدل في البداية. وتحت ضغوط دولية شديدة، أصدرت حكومة جمهورية صربسكا (التي أصبحت بعد النزاع جزءًا تأسيسيًا من البوسنة والهرسك بشكل رسمي) اعتذارًا في عام ٢٠٠٤ عن “الجرائم الهائلة” في سريبرينيتشا واعترفت بأن ما يقدر بنحو ٧٨٠٠ شخصًا قد لقوا حتفهم. وعلى الرغم من عدم موافقة جميع المصادر على هذا الرقم، فقد كان مقتل ٧٠٠٠ شخص على الأقل متّفقًا عليه بشكل عام، وقدرت بعض التقديرات عدد القتلى بأكثر من ٨٠٠٠.
وقد عقَّد جُهد القوات الصربية البوسنية المنظّمُ جيّدًا والذي بذلته لإخفاء آثار جرائم سريبرينيتشا في شهري سبتمبر وأكتوبر لعام ١٩٩٥ عمليةَ تحديدِ مواقع القبور وتحديدِ الضحايا. فقد استخدم الجنود الجرارات الثقيلة والحفارات الخلفية لحفر المقابر الجماعية ونقلوا الأشلاء الممزقة إلى مواقع متباعدة، عَثر خبراء المخابرات الأمريكية على العديد منها في وقت لاحق باستخدام صور الأقمار الصناعية. لقد تطلَّب الأمرُ من العلماء الغربيينَ سنواتٍ من التحليل – باستخدام مقارنات شاقة لعينات التربة والأنسجة، وأغلفة القشرة، وحبوب اللقاح، وشظايا الملابس – للجمع بين أماكن حدوث القتل بالضبط وبين كيفيّة نقل الجثث بين ما يقدر بـ ٨٠ موقعًا للمقابر الجماعية. وبحلول أوائل عام ٢٠١٠، استخدمت اللجنة الدولية المعنية بالمفقودين (وهي منظمة غير حكومية تأسست في عام ١٩٩٦) عيناتٍ من الحمض النووي لتحديدِ أكثر من ٦٤٠٠ ضحية من الأفراد.
وفي تقرير رسمي صدر عام ٢٠٠٥، ذكرت حكومة صرب البوسنة أن ١٩,٤٧٣ من صرب البوسنة متورطون في عمليات القتل – بمن فيهم مئاتٌ استمروا في مناصب حكومية رسمية. وقد أدانت المحكمة الجنائية للأمم المتحدة في النهاية أكثر من ٢٠ شخصًا لتورطهم. وفي عام ٢٠٠١، أدانت المحكمة راديسلاف كرستيتش، قائد فيلق الصرب البوسنيين المسؤول عن منطقة سريبرينيتشا، بالمساعدة والتحريض على الإبادة الجماعية والقتل. وفي عام ٢٠٠٣، أقرَّ ضابط المخابرات الصربية البوسنية مومير نيكوليتش أنه مذنب بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وتلقى كل من كرستيتش ونيكوليتش فترات سجن طويلة. وفي عام ٢٠١٠، أدانت المحكمة اثنين من رؤساء الأمن لجيش صرب البوسنة، وهما فويادين بوبوفيتش وليوبيشا بيرا، بتهمة الإبادة الجماعية وحكمت عليهم بالسجن المؤبد؛ وحكم على ضابط ثالث من صرب البوسنة، وهو دراجو نيكوليتش، بالسجن لمدة ٣٥ عاما بتهمة التحريض على الإبادة الجماعية. وبدأت في عام ٢٠٠٩ محاكمة كارادزيتش، والذي حُدّد مكانه واعتقل في عام ٢٠٠٨، وفي شهر مارس / آذار لعام ٢٠١٦، أدين بارتكاب إبادة جماعية، بالإضافة إلى تسع جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وحُكم عليه بالسجن ٤٠ عامًا. ظل ملاديتش هاربًا حتى مايو ٢٠١١، عندما قُبضَ عليه في صربيا ليُسلّم إلى لاهاي للمحاكمة. في نوفمبر ٢٠١٧، أدين بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية وحكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أبريل من عام ٢٠١٣، أصدر توميسلاف نيكوليتش اعتذارًا في قنوات الإعلام الصربي عما أسماه “الجريمة” التي ارتكبت في سريبرينيتشا، لكنه لم يصل إلى حد وصف الحدث بالإبادة الجماعية.
وفي شهر يوليو من عام ٢٠١١، قضت محكمة استئناف هولندية بأن هولندا كانت مسؤولة عن مقتل ثلاثة رجال بوسنيين كانوا قد قتلوا في يوليو ١٩٩٥ بعد أن أجبرتهم القوات الهولندية على مغادرة مجمع الأمم المتحدة في بوتوتشاري على يد صرب البوسنة. كان قرار المحكمة هو المرة الأولى التي حملت فيها الدولة المسؤولية عن أفعال قوات حفظ السلام التابعة لها والعاملة بموجب تفويض من الأمم المتحدة. وفي يوليو من عام ٢٠١٤، اتهمت محكمة هولندية الحكومة الهولندية بمقتل أكثر من ٣٠٠ رجل وصبي من البوسنة في سريبرينيتشا، وقضت بأنه يحق للأقارب الباقين على قيد الحياة الحصول على تعويض. وقد برَّأ القرار هولندا من المسؤولية عن البقية الذين قتلوا في منطقة سريبرينيتشا. وفي شهر يونيو من عام ٢٠١٧، أيدت محكمة الاستئناف الهولندية إلى حد كبير قرار ٢٠١٤، لكنها قضت بأن هولندا يجب أن تكون مسؤولةً فقط عن ٣٠ في المئة عن أي تعويضات مالية تُمنح لعائلات القتلى. واعتبرت المحكمة أن هناك احتمالية بنسبة ٧٠ في المئة أن يكون صرب البوسنة قد اختطفوا اللاجئين بغض النظر عن أفعال قوات حفظ السلام الهولندية.
وفي شهر مارس من عام ٢٠١٥، ألقت السلطات الصربيةُ القبض على ثمانية رجال متهمين بالتورط المباشر في قتل حوالي ١٠٠٠ رجل وصبي بوسني في مستودع في كرافيتسا. وكانت المرة الأولى التي وجهت فيها الحكومة الصربية – بدلاً من المحاكم البوسنية أو الدولية – اتهامات جنائية تتعلق بمذبحة سربرينيتشا.
المصدر :
https://www.britannica.com/event/Srebrenica-massacre/Aftermath