تُعد مدينة الزهراء الفخمة بالإضافة إلى توسعة مسجد قرطبة مشروعَ الخلافة العظيم لعبد الرحمن الثالث (الذي حكم بين 300/912-350/961) وتقريبا عام (324/936)، وامتدّت أعمال هذا المشروع خمسين عامًا، وكانت على مراحل متتالية، حتى وفاة ابنه الحكم الثاني (حكم بين 350/961- 366/976).
نُهبت المدينة بداية عام (400/1010)، وغدت منطقة مهجورة، ولأوّل مرة بعد اكتشاف مدينة الزهراء أواخر القرن التاسع عشر في الشمال الشرقي من قرطبة تتيح لنا الأجزاءُ المحفورة منها (وهي أقل من نصف المساحة التي كانت تشغلها) فهمَ ثرائها، وتعقيدها، وقصر الخليفة الجديد، ومضافات، ووحدات سكنية للحاشية، ومسجد جامع، وحدائق، ومساحات مخصصة للإدارة والجيش، والأحياء التي تشكل المدينة الملكية، وما يعرف بأماكن تبادل المعرفة.
إنّ العثور على تابوتٍ روماني، ومجموعة من المنحوتات في بعض مباني قصر الزهراء حفّز التأمل في أسباب إعادة استخدام المواد من العصور الكلاسيكية في العمارة الإسلامية، والدَّور الذي لعبته العصور القديمة في بناء الأندلس، فوجود التماثيل الرومانية في قصر إسلامي من القرن الرابع/ العاشر استثنائي، لكن لماذا استُخدِم spolia الكلاسيكي في وقت لم تعد له فيه شعبية؟! لماذا أُعيد استخدام القطع القديمة مع الدلالات التي تمثل مشاهد، وشخصيات (أبطال وفلاسفة)، وتشكيلات كانت وثنية وثابتة وغير مقبولة في سياق إسلامي مثل الخلافة في قرطبة؟ ما المعنى المراد من هذه الأشكال؟ وما العلاقة التي تربطهم بموقعهم المحدد؟
إن اكتشاف التماثيل والنقوش الرومانية في الزهراء كان على مدى طويل، بدءًا من حملات التنقيب الأولى التي قام بها ريكاردو فيلاسكيز بوسكو Ricardo Velazquez Bosco في أوائل القرن العشرين، إلى أحدثها، وقد عُثِر على القطع في حالة مزرية؛ مما أعاق عملية جمع كل الشظايا اللازمة لإعادة بنائها، كما كُشِف عن شظايا تابوت بوابة “حادس” في منطقة تُعرف باسم “بلاط الساعات” فوق خزائن الحمامات، والغرف المجاورة صالونَ ريكو أو قاعة عبد الرحمن الثالث في الشرفة السفلى. وفي الأمام إلى جانبي بوابة “حادث” أو “الخيمة”، يمكننا أن نرى زوجين ممثّلَين دور فلاسفة يرافقهما لوحتان، ويتضمن كل من الجانبين الصغيرين تمثالَين اثنين لفيلسوفَين، أحدهما جالس والآخر واقف، وأما الجزء العلوي من كلا الجانبين ففيه فتحات صُنعت لاحقاً لتكون نافورة.
خلال حملات التنقيب الأولى اكتُشف تابوت ميليجير Meleager في القصر داخل المدينة، وقد نحت على الطرف الأمامي للتابوت صورة ميليجير وهو يصطاد خنزير كاليدون، وكانت الواجهة المنقوشة تقابل الرواق الغربي للباحة. كما اكتُشفت بقايا تابوتين آخرَين يصوران الفلاسفة واللوحات ومشهد باشيك Bacchic على تل في منطقة كامينو دي روندا باجو، وهو ممر سفلي شمال الحديقة السفلى. تُعد قطع الفلاسفة والتابوت ذات أبعاد استثنائية، إذ كانت بعض الشخصيات تحمل لفافة ورقية وترتدي سترة الفلاسفة اليونانيين، وكلاهما (الشخصيات والتابوت) يُستخدمان لتصوير الفلاسفة والسادة.
وعُثر أيضا على مجموعة قطع رائعة لهرقل الطفل، وسلسلة من بقايا ثلاث ساعات شمسية في ساحة الساعات، مما يشير إلى أنه ربما استُخدمت للأنشطة العلمية والفلكية، فالخليفة الحكم الثاني كان له فريق من علماء الفلك في خدمته. وحسب مصادر أندلسية، قد ضمّت مدينة الزهراء مساحات مخصصة لتعليم الأمراء، وأماكن أخرى عمل فيها العلماء (من أطباء، وعلماء فلك، وعلماء النحو، وعلماء القانون والدين، والعلماء الفقهاء) بأمر من الخليفة، إضافة إلى الأرشيفات، والمكتبة البلاطية الشهيرة التي سمّاها القاضي عياض (قاضي قرطبة) في ترجمة أبي بكر بن السالم الفقيه والقاضي الكبير في قرطبة: بيتُ حِكمةِ الحكَم الثاني.
وذكر القاضي عياض -قبل ترقيته إلى منصب قاضٍ في 356/966- حكاية منسوبة إلى ابن حيان (المتوفى 469/1076)، وهو المؤرخ المطلع على تاريخ القرن العاشر، وهي:
كان ابن السالم ينتقد أبا القاسم أحمد بن محمد بن يوسف معلم الأمير هشام؛ إذ دفع له الحكم الثاني لجَمْع كتبه. ولكن بعد سنوات أقنع الخليفة ابن السالم بحبه للعلم أن يجعله كاتبا في دواوين بيت الحكمة مقابل أجر.
وهذا الذكر الوحيد حتى الآن لبيت الحكمة العلمي كتبه مؤلفٌ بعد انقضاء قرنَين تقريبًا من الأحداث، وفي وقت استُخدم فيه تعبير بيت الحكمة وتعبير خزانة الحكمة للدلالة إلى مكان واحد حسب العرف آنذاك، ويشير هذان التعبيران إلى إحدى المؤسسات المخصصة لحفظ العلم في بلاط المأمون العباسي في بغداد.
كان للقاضي عياض المؤرخ الدقيق الذي درس في الشرق أن ينسخ هذا المصطلح من مصدر سابق، مثل: ابن حيان، أو ربما استخدامه من خلال استيعاب الأحداث في بغداد.
وفي الحالتين تبدو لنا هذه الإشارة إلى بيت الحكمة العلمي بليغة جدًا، وتكمِّل المعلومات التي كانت معروفة عن مكتبة الحكم. ونرى المقّرّي (المتوفى 1040/1631) يقتبس من مؤلفَين سابقَين في كتابه نفح الطيب ليصف الحكم الثاني بأنه “محبُّ العلم، الذي جمع كتبا أكثر من أي حاكم آخر”. وعند ابن حزم: “كنز خِزانات المعرفة والكتب التي كانت في منزل بني مروان هو دليل كتب فقط، يذكر فيه العنوان والوصف، وكانت 44 مجلدا لكل منها 20 صفحة”، إذ أرسل الخليفة مبعوثيه إلى بغداد للبحث عن الكتب الأصلية، والنُّسَخ الأثرية، ودفع في ذلك مبالغ كبيرة من الدينار الذهبي، وجمع في مكتبته خبراء تدوين ونسخ كتب، ماهرين في تجليدها والحفظ، إضافة إلى المصحّحين والخطّاطين. وحسبما قال هؤلاء المؤلفون: لقد كان في المكتبات تجميعُ النسخ، وترجمةُ الكتب من اللاتينية واليونانية إلى العربية، فسُمّيت هذه المكتبات أيضًا “خزانة العلوم والكتب بدار بني مروان”.
لكن ما الموقع الدقيق لمكتبات الخليفة؟
هذا الأمر لا يزال مجهولاً، ولا شك في أن الكتب وُزِّعت على الأقل بين المقر الرئيس للخليفة في قرطبة ومدينة الزهراء. ليس هناك أي دليل لتحديد هذه المساحات؛ لأن المؤسسات الشرقية الأولى -مثل بيت الحكمة وغيرها من المراكز العباسية المخصصة لاستعادة العلوم وحفظها- لم تخلّف أي أثر مادي. وتشير الأوصاف النصية إلى أنه في القرنَين التاسع والعاشر كانت هذه مناطق متعددة الوظائف، من دون وجود توصيف معماري واضح، وهذه (أي تحديد وظائف بعض أماكن البلاط بدقّة) إحدى تحديات دراسة مدينة الزهراء.
وفي المدة الأخيرة فصل التأريخ نفسه عن وجهة النظر الرومانسية والمستشرقة القديمة للقصور الإسلامية كمكان للترفيه والمتعة، وللوصول إلى استنتاج حول وظيفة أي مساحة نحن بحاجة إلى فحص أشكالها المعمارية وزخارفها والمواد الموجودة في الداخل، وسياقها التاريخي والثقافي والفني. بعض مباني القصر التي تتوسّطها باحات لا سيما باحة الأركان وباحة الساعات، اللتان تُعدان حتى اليوم “مناطق إدارية وخدمية”، لديها خاصّيات توحي بأن لها أدوارا مميّزة، ويشير موقعها الاستراتيجي داخل القصر، وهيكلها المعماري، إضافة إلى بقايا الساعة الشمسية، والمنحوتات الرومانية، والتوابيت التي أعيد استخدامها نوافير في فنائها يشير إلى أنها كانت مساحات تتعلق بالأنشطة العلمية والفكرية.
لن تُقبل هذه الصور لشخصيات من الفلاسفة والموسيقين إلا في مجال يتعلق بعلوم القدماء “علم الأوائل” وهذا يقابل ما ندعوه “التاريخ”، حيث سيُتَعرَّف إلى صور الفلاسفة، وأبطال العصور القديمة، وستُقبَل بفضل الكتب التي جُمعت، والعديد من العلماء والمفكّرين الناشطين في بلاط الخلفاء.
أدى اعتماد عبد الرحمن الثالث على علو شأن الخلافة عام 316/929 إلى جعل الأندلس أهم مركز فني ومعرفي غرب البحر الأبيض المتوسط، ينافس مباشرة الدولة العبيدية، والخلافة العباسية، والإمبراطورية البيزنطية. ولإضفاء الشرعية؛ استشهد الأمويون الأندلسيون بإرث الخلفاء “الراشدين”، وأسلافهم الشرقيين؛ مما مكنهم من تقديم أنفسهم مرشدين عِظاما، وأوصياء على العقيدة السنية.
ومثل الأسلاف الأمويين والخلفاء العباسيين في القرن التاسع، قام الحكم الثاني بالترويج للعلوم والفنون، وأحاط نفسه بالعلماء، ورعى تعليم الأمراء، مُقتديا بالحكماء من الملوك، كالإسكندر الأكبر خوسرو، وأرداشير، والخليفة العباسي المأمون. وفي حين أصبحوا ورثة ماضيهم من أصل إسباني، وروماني، وإسباني قوطي، قاموا ببناء مجمع سياسي، وثقافي، وبصري، ذي طابع أندلسي من الدرجة الأولى.
المصدر :