مذبحة القلعة
في تلك الفترة أراد محمد علي باشا القضاء على المماليك للتفرد بالسلطة، واستغل أوامر السلطان العثماني بتكليفه بالقضاء على الثورة في نجد فكلف ابنه طوسون بالأمر وأرسل إلى المماليك يدعوهم لوداع ابنه.
فأعدّ “محمد علي” مهرجانًا فخمًا بالقلعة دعا إليه كبار رجال دولته، وجميع الأمراء والبكوات والكشاف المماليك، فلبى المماليك تلك الدعوة وعدُّوها دليل رضاه عنهم، وقبل ابتداء الحفل دخل البكوات المماليك على محمد علي فتلقاهم بالحفاوة، ودعاهم إلى تناول القهوة معه، وشكرهم على إجابتهم دعوته، وألمح إلى ما يناله ابنه من التكريم إذا ما ساروا معه في الموكب، وراح محمد علي يتجاذب معهم أطراف الحديث؛ إمعانًا في إشعارهم بالأمن والود.
-ومن الجدير بالذكر أن المماليك قد كانت تحاول بريطانيا استمالتهم إليها، بينما نجد أن محمد علي قد تلقى دعمًا من فرنسا-.
وحان موعد تحرك الموكب، فنهض المماليك وبادلوا محمد علي التحية، وانضموا إلى الموكب، وكان يتقدم الركب مجموعة من الفرسان في طليعة الموكب، بعدها كان والي الشرطة ومحافظ المدينة، ثم كوكبه من الجنود الأرناؤوط.
وتحرك الموكب ليغادر القلعة، فسار في طريق ضيق نحو باب العزب -نحو ميدان صلاح الدين -، فلما اجتاز الباب طليعة الموكب ووالي الشرطة والمحافظ، أُغْلِق الباب فجأة من الخارج في وجه المماليك، ومن ورائهم الجنود الأرناؤوط بقيادة ضابط يدعى أوزون وآخر يدعى صالح أق قوش، وتحول الجنود بسرعة عن الطريق، وتسلقوا الصخور على الجانبين، وراحوا يمطرون المماليك الذي يتقدمهم سليمان بك بوابل من الرصاص.
تمكن سليمان بك من الوصول سراي الحرملك ونادى “في عرض الحرم” كانت هذه الكلمة كافية لإنقاذه في تلك الأيام لكن الجنود لم يأبهوا وقتلوه ورموا جثته بعيدًا عن الحرم.
أخذت المفاجأة المماليك وساد بينهم الهرج والفوضى، وحاولوا الفرار، ولكن بنادق الجنود كانت تحصدهم في كل مكان، ومن نجا منهم من الرصاص فقد ذُبِح بوحشية.
وسقط المماليك صرعى مضرجين في دمائهم، حتى امتلأ فناء القلعة بالجثث، ولم ينج من المماليك الأربعمائة والسبعين الذين دخلوا القلعة في صبيحة ذلك اليوم إلا واحد يسمى “أمين بك” كان في مؤخرة الصفوف، واستطاع أن يقفز بجواده من فوق سور القلعة، وهرب بعد ذلك إلى الشام.
وعندها دخل المسيو الإيطالي ماندريشي على محمد علي باشا الذي كان طبيبه وقال له :(لقد قضي الأمر واليوم هو يوم سعيد لسموكم). لكنه لم يعلق على ماقاله البتة وطلب قدح ماء.
ووصل خبر تلك المذبحة إلى الجماهير المحتشدة في الشوارع لمشاهدة الموكب، فسرى الذعر بينهم، وتفرق الناس، وأقفلت الدكاكين والأسواق، وهرع الجميع إلى بيوتهم، وخلت الشوارع والطرقات من المارة.
وسرعان ما انتشرت جماعات من الجنود الأرناؤوط في أنحاء القاهرة يفتكون بكل من يلقونه من المماليك وأتباعهم، ويقتحمون بيوتهم فينهبون ما تصل إليه أيديهم، وكثر القتل، واستمر النهب، وسادت الفوضى ثلاثة أيام، قُتل خلالها نحو ألف من المماليك ونُهب خمسمائة بيت، ولم يتوقف السلب والنهب إلا بعد أن نزل محمد علي إلى شوارع المدينة، وتمكن من السيطرة على جنوده وأعاد الانضباط.
وهكذا استطاع محمد علي الانفراد بالحكم، ولكن على أشلاء المعارضين، وصفت الأمور عندها لمحمد علي لتحقيق حلمه السابق.
المصادر:
كتاب محمد على باشا (تاجر التبغ على عرش مصر) لنشأت الديهي
كتاب عصر محمد علي لكاتبه عبد الرحمن الرافعي