مشافي الشام في العهد الأيوبي
الجزءُ الثَّاني: البِيْمَارِسْتَانُ النُّورِيُّ
بعد أنْ سيطرَ نورُ الدِّينِ زنكيُّ على منطقةِ الشَّامِ ووطَّدَ حُكمَه فيها، جعلَ من مدينةِ دمشقَ مركزاً تجاريّاً وثقافيّاً، وقد كان للمجالِ الصِّحِّيِّ الطِّبِّيِّ له نصيبٌ من ذلك، فقد تَمَّ اختيارُ مكانٍ لبناءِ بِيْمَارِسْتَانَ “مستشفى” في مدينةِ دمشقَ وتمَّ ذلك في عنايةٍ ودِقَّةٍ كبيرةٍ، وكان ذلك المكانُ في منطقةٍ تقعُ جنوبَ غربِ المسجدِ الأُمَوِيِّ الكبيرِ في دمشقَ الغنيُّ عنِ التَّعريفِ، وتمَّ البَدءُ في إنشائِه عامَ 546هـ ، 1152م .
نورُ الدِّينِ زِنكيُّ لم يخصصْ المالَ والقوَّةَ الكبيرةَ فقط لإنشاءِ ذلك البِيْمَارِسْتَانَ، بل بذلَ أيضاً الكتبَ النَّفيسةَ والمكتبَاتِ الضَّخمةَ اللَّازمةَ لمستشفىً بذلك الحجمِ والضَّخامةِ، وتمَّ توسيعُ ذلك المبنى في العامِ 639هـ ، 1242م، ليظلَّ بعدَها على حجمِه ذلك حتَّى وقتِنا الحاضرِ.
هيكلُ البناءِ عند المدخلِ الرَّئيسِ كان على الطَّرازِ السَّلجوقِيِّ.
بعدَ البابِ الرَّئيسِ الخشبيِّ المُغطَّى بالنُّحاسِ والزَّخارفِ الهندسيَّةِ، ستصلُ إلى قاعةٍ مُربَّعةٍ ضَخمةٍ، وعلى اليسارِ غُرفةٌ واسعةٌ تُستَخدَمُ الآنَ غرفةَ استقبالٍ للمُتحفِِ الطِّبِّيِّ العربيِّ الواقعِ ضمنَ المبنى ذاتِه، وهذه القاعةُ مُزوَّدةٌ بأقواسٍ عاليةٍ مُزخرفةٍ بصورِ الأزهارِ والطَّواويسَ والزَّخارفِ. وهناك نافورةٌ في وسطِ الباحةِ المركزيَّةِ، مثلَ بقيَّةِ الأبنيةِ المشابهةِ في دمشقَ والشَّامِ عامَّةً.
الزُّوَّارُ بإمكانِهم إيجادُ بعضِ المنشوراتِ عن تاريخِ المستشفى باللُّغةِ العربيَّةِ، وفي البناءِ أيضاً غُرَفٌ عديدةٌ مُحيطةٌ بالفناءِ الرَّئيسِ مُحاطةٌ بالأقواسِ المُزخرفةِ، وبعضُ تلك الغُرفِ مفتوحةٌ وتُعرَضُ فيها الأدواتُ الجراحيَّةُ والطِّبِّيَّةُ المُستخدمةُ في ذلك المستشفى، والَّتي مُعظمُها تطوَّرَ وأصبحَ من الأدواتِ المعاصرةِ في المستشفياتِ، كما يُعرَضُ أيضاً معَها مقاطعُ نصِّيَّةٌ قصيرةٌ توضِّحُ استخدامَ تلك الأدواتِ، وتُعرَضُ أيضاً بعضُ الأواني الزُّجاجيَّةِ المُستخدمةِ الَّتي يعودُ بعضُها لعصورٍ ليست بالحديثةِ، وتُعرضُ بعضُ الأدواتِ والأوزانِ والمِدَقَّاتِ “الهاوِنَ” الَّتي تُستخدمُ -على ما يبدو- في تصنيعِ الأدويةِ وتحضيرِها، ويوجدُ في إحدى الغُرفِ “إسفنجةُ التَّخدير”، وهي موضعَةٌ بجانبِ وعاءٍ أرضيٍّ. وثمَّةَ غرفةٌ تحتَ عنوانِ “المكتبةُ” لكنَّها مُغلقةٌ.
هناك ملحوظةٌ تقولُ: إنَّ هذه المستشفى قد كانت مركزَ تدريبٍ وتعليمٍ للأطباءِ وذلك في فترتِها الذَّهبيَّةِ وذروتِها، وأشارَ “سامي الحمارنة” أن تلك المستشفى قدِ احْتفظَتْ ببعضِ سِجلَّاتِ المرضى فيها، وذلك لأنَّها كانت مسؤوليَّةُ مديرِ المستشفى. وقد تمَّ ذكرُ هذه المستشفى عندَ ابنِ أبي أُصَيْبِعَةِ، وذلك في تراجمِه عن الأطبَّاءِ، ويَذكرُ أنَّه كان هو أحدَ طلابِها.
القاعةُ المُقنطرةُ المُقابلةُ للمدخلِ، المُسماةُ بالإيوانِ أو اللِّيوانِ، هي القاعةُ الَّتي كانَ يجري فيها التَّدريسُ. ومنَ الجميلِ أن نعرفَ أنَّ طبيباً مثلَ ابنِ النَّفيسِ 1210-1288م قد درسَ في هذه القاعةِ أيضاً.
كما يوجد من المعروضاتِ في الجهةِ الجَنوبيَّةِ ناعورةٌ، وهي مِضخَّةُ مياهٍ تُستخدَمُ في رفعِ الماءِ من المستوى المنخفضِ إلى المستوى الأعلى، وهي آلةٌ ليست غريبةً عن الثَّقافةِ الشَّاميَّةِ.
وحسبَ القيودِ والسجلَّات، فإنَّ هذا المستشفى ظلَّ يعملُ حتى العام 1316هـ ، 1899م ، إلى أن تمَّ افتتاحُ مستشفى آخرَ جديدٍ في المدينةِ، حيثُ تمَّ نقلُ الأدواتِ والملازمِ منه إلى المستشفى الجديدِ. وحينَها تمَّ تحويلُ بناءِ المستشفى إلى مدرسةٍ للإثاثِ ثمَّ مدرسةٍ للذُّكورِ لعدها.
ذُكرَ Allen O. Whipple أنَّه زار المستشفى وقد كانت لا تزالُ تُستخدمُ مدرسةً للبنين، وأنَّه قد دخلَ المستشفى في وقتٍ كان الأطفالُ يداومون فيه، كما نشرَ له إحدى الصُّورِ عندَ المدخلِ، وهي مُطابقةٌ لتاريخِ إعدادِ هذه الورقةِ 2006م. وهي في وضعِها الحاليِّ قد حُوِّلتْ إلى مُتحفٍ ويجدرُ الذِّكرُ أنَّها مستشفىً ذُكِرَت لدى معظمِ المؤرِّخين في مجالِ الطِّبِّ عندَ العربِ والمسلمين ومؤرِّخي مدينةِ دمشقَ.