لم يجعل الله تعالى الدنيا دار نعيم لأوليائه، ولا مستقرًّا لعباده؛ وإنما جعلها دار ابتلاء يُبتلى فيها المُكَلَّفُونَ تارة بالسراء؛ وتارة بالضرَّاء.
ولم يسلم من ابتلاءات الضراء أفاضل البشر، وخيار الناس: الأنبياءُ والمرسلون، وأصحابهم وأتباعهم والمؤمنون.
ودوامةُ الابتلاء تدور ما دارت الأيام، والصراعُ بين الحق والباطل قائم ودائم ما دامت الدنيا.
يُدِيلُ الله تعالى لأهل الحق على أهل الباطل تارةً، وينصرهم عليهم، وتارةً ينتصرُ أهل الباطل؛ لحكمة يريدها الله تبارك وتعالى ولو شاء لهدى الناس جميعًا، ولو شاء لانتقم من أنصار الشيطان لأنصاره تبارك وتعالى ﴿ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾ [محمد: 4].
ومِنَ المعارك المشهورة في تاريخ الإسلام: معركة حطين، التي انتصر فيها أهل التوحيد على أهل التثليث، وقعت في العشر الأخيرة من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وخمسمئة للهجرة النبوية .
بعد وفاة الملك بلدوين الخامس ملك بيت المقدس مر الصليبيين في حالة من الاضطرابات حول من سيخلفه في عرشه وبعد تنقل العرش بين سبيلا وقبلها طفلها استقر رأيهم على زوجها جاي لوزينان وفي تلك الفترة كان الفرنجة يغيرون على القوافل القادمة من البحر الأحمر وأراد صلاح الدين أن تكون المواجهة على جبهة واحدة فأرسل إلى حلب يطلب من أميرها أن يهادن جاره بوهمند أمير الفرنجة على أنطاكية وأما أمير طرابلس القمص ريموند الصنجلي فقد رفص ملك جاي لوزينان ووجد نفسه مضطر للتعاون مع صلاح الدين ضد جاي لوزينان وبهذا كسب صلاح الدين حليفين في حربه على الفرنجة في بيت المقدس قبل أن تقوم الحرب -علماً انه أعاد اتفاقه مع الملك لاحقاً-.
هذا النجاح أثار غضب أرناط أو رينولد شاتيون أو رينود دي شاتليون صاحب الكرك فأمر بمهاجمة القوافل القادمة من الحجاز إلى الشام عبر أراضيه فقتل حراس إحدى القوافل واسر البعض الآخر مع عائلاتهم واقتادهم إلى حصن الكرك،
وبسبب احترام صلاح الدين لمعاهدته مع جاي أرسل إلى رينود ينصحه برد الأسرى وترك القافلة لكنه رفض استقبال الرسل فأرسل صلاح الدين إلى الملك في بيت المقدس يأمره بنصح رينود وأن يترك الأسرى . لبى ذلك الملك لكنه فشل في الضغط على رينود مما نزع الثقة بينه وبينه اميره على الكرك مما أدخل الشك في قلب الملك بأن رينود يريد الانفراد في حكم الكرك. وبهذا أصبحت صفوف إمارات وممالك الفرنجة خالية من الثقة ومزعزعة بينما كان يعمل صلاح الدين على توحيد صفوف المسلمين ورصها في كل من مصر والشام والموصل والجزيرة وبدأ بتجهيز الجيوش وأراد للمعركة بأن تكون حاسمة.
وفي آذار 1187 خرج على رأس جيش كبير من دمشق واتجه جنوباً حتى حوران وبصرى في الجنوب من حوران وأراد استقبال قافلة الحجيج لأن أخبار وردته بأن رينود يريد مهاجمة قافلة الحجيج وكان من ضمن القافلة أخته وابنها وحينما ضمن سلامة القافلة ذهب مهاجماً حصن الكرك وكان قد ترك ابنه نور الدين علي في رأس الماء لينتظر وصول العسكر المجهزين للحرب وهدفة حركة صلاح الدين في الكرك إلى إخافة رينود والتمويه على نيته مهاجمة بيت المقدس. وبعد مهاجمته لحصن الكرك هاجم الشوبك بغرض حماية قوافل الحجيج من الصليبيين. بعد ذلك قام صلاح الدين بفك معسكره في الكرك والشوبك ونقلهم إلى حوران للاجتماع بالجيش الذي تجمع مع نور الدين علي وعرض عدده فكان قد بلغ 12 ألف جندي وفي بعض الروايات 30 ألف فجعل ابن اخيه تقي الدين عمر على الميمنة ومظفر الدين كوكبوري على الميسرة واستلم بنفسه القلب.
عقلية قائد :
وبعد هذا الجمع صالح أمير طرابلس الملك جاي وأعلنوا التعبئة وجمعوا جندهم ليخرجوا لملاقاة المسلمين وكان عددهم عشرون ألف. ولما علم صلاح الدين عسكرة الفرنج في صفورية وهي أرض مليئة بالمراعي والمياه أراد جرهم إلى منطقة تناسب خطته وأراد لهم أن يصلوا متعبين وعطشى بينما يكن جنده في كامل قوتهم فتوجه ليهاجم طبريا وبسيطر على الطرق التي تحوي ينابيع المياه فسيطر على طبريا وحاصر الفرنجة في قلعتها فقام جاي بجمع مجلس الحرب وسمع آرائهم فأشار عليه ريموند بأن يترك طبرية وقلعتها لمصيرها وبعد أن يخرج عسكر المسلمين بمدة منها إلى دمشق يعودوا ويهاجموها من جديد مما أثار حفيظة رينود دي شاتيو وجاي واتهمهوه وجنده بتواطؤه مع المسلمين واستطاع رينود أن يؤثر على الملك قرروا الخروج لملاقاة المسلمين وكان مسيرهم في مناطق وعرة قليلة المياه مما جعلهم متعبين كما أن كثير منهم لم يكن يريد الخروج وانما خرجوا مكرهين وكان ريموند في مقدمة الجيش وكان يحثهم بشد على الوصول إلى مياه طبرية بسرعة قصوى لكن هذا ادى إلى تذمر الجيش وحينما علم صلاح الدين بوضعهم قال: ” قد حصل المطلوب وكمل المخطوب وجاء ما نريد ولنا بحمد الله جد الجديد والحد الحديد والبأس الشديد والنصر العتيد وإذا صحت كسرتهم وأسرت أسرتهم فطبريا وجميع الساحل ما لنا دوناها مانع ولا عن فتحها وازع“ وأمر جنوده بالتوجه إلى جبل طبرية المطل على سهل حطين. وحينما وصل الجيش الفرنجي كان قد أصابه التعب وناله العطش بعد أن حال بينهم وبين الماء جيش صلاح الدين وتحرك الجيشان وتصادما بأرض تسمى اللوبية حتى حال الليل والظلام دونهما.
ريموند يحاول الفرار :
وخلال الليل كان جيش المسلمين ينعم بالماء وجيش الصليبين محروم منها وفي الليل أمر صلاح الدين جيشه بالانتشار في سهل حطين محيطين بمعسكر الفرنج وحينما طل الصباح اكتشف الفرنج أنهم محاصرون بعيداً عن المياه فأرادوا الهجوم باتجاه طبريا طلبا للماء وقام المسلمون وقتها بالهجوم الكبير عليهم وهم قد وضعوا في ذهنهم أنهم وسط البلاد التي احتلها الفرنج فلا راد لهم إلى النصر أو الشهادة وفي هذه الأثناء قرر ريموند أمير طرابلس الخروج مع مقاتليه ومجموعة من أمراءه من المعركة فكان انسحابهم محطماً لآمال الصليبين ولا يستبعد أن يكون ذلك قد تم بالاتفاق مع صلاح الدين وبعد خروجه قام المسلمين باحراق العشب والشوك في حطين وكانت الرياح تهب باتجاه الجيش الفرنجي مما زاد الحر والعطش فاتجهوا إلى جبل حطين وأراد صعوده وأرادوا نصب الخيم لكنهم لن يتمكنوا من نصب إلا خيمة واحد هي للملك.
غنيمة صليب الصلبوت:
وبعد كل هذا النجاح تمكن صلاح الدين من غنيمة صليب الصلبوت والذي يزعمون أن فيه خشبة من الخشبات التي صلب عليها المسيح عليه السلام بزعمهم فكان ذلك نصر معنوياً وجزء من حرب نفسية أثرت على الجيش الصليبي وبعد أن وقع الجيش الصليبي في الأسر أو القتل أو الفرار لم يتبقى حول الملك سوى 150 شخص من الفرسان المشهورين فنزل صلاح الدين وقال ”ما نهزم حتى تسقط تلك الخيمة“ وما هي إلا لحظات حتى سقطت تلك الخيمة.
ولم ينجوا سوى من كان مع باليان في المؤخرة الذي عاد بهم إلى بيت المقدس أو الذين خرجوا مع ريموند حاكم طرابلس وريجنالد صاحب صيدا وتساقط معظم كبراء الأمراء أسرى بيد صلاح الدين على رأسهم الملك نفسه ورينود دي شاتيو.
صلاح الدين يقتل شاتيون بيده:
بعد أن صلى صلاح الدين صلاة شكر ذهب وجلس مع الأمراء الأسرى وأعطى ماء مثلج للملك فشرب وأعطى ما تبقى منها لرينود فشربهم فغضب صلاح الدين وقال لم يشرب رينود بإذني فرد عليه الترجمان عن رينود قائلاً ”هي سنة الملوك“ فأوقفه صلاح الدين وقال ها انا انتصر لمحمد ،،، وتذكر القافلة التي غزاها رينود وقال عرضاً بالإسلام فرفض ذلك فسحب سيفه وضرب رأسه فارتعب من ذلك جاي وظن أنه الثاني بعد رينود لكن صلاح الدين قال له الملك لا يقتل ملك لكن هذا المجرم تجاوز حده فجرى ما جرى له.ثم أصدر أوامره بألا يتعرض الأمراء للأذى
خاتمة :
لقد كان يومُ حطين يومًا عظيمًا في الإسلام، وكانت معركتها القاصمة التي قصمت ظُهور النصارى، وهي المُمَهِّدَة لفتح بيت المقدس، وتطهيره من عُبَّاد الصليب، ورُعاة الخنزير؛ إذ بعد ثلاثة أشهر فقط من معركة حطين تم فتح بيت المقدس، وانتهت إمارة الصليبيين عليه بعد أن دَنَّسوه بكُفْرِهم وتثليثهم إحدى وتسعين سنة، كما انتهت إماراتهم في كثير من بلاد الشام بتتابع الفتوح والانتصارات بعد معركة حِطِّين الخالدة على يد صلاح الدين، ثم على يد ملوك بني أيوب ومَنْ بَعْدَهُمْ إلى أن تَمَّ طردُهم من الشرق الإسلامي، وانتهتِ الحملاتُ الصليبية بعد أن أيقن ملوك أوربا أنهم لن يستطيعوا إخضاع الشرق الإسلامي لحكمهم، ولم تأت قناعتهم تلك إلا بعد معاناة طويلة، وتضحيَّات كبيرة بالأنفس والأموال والمتاع بذلها المسلمون، ودامت مائتي سنة، فلله الحمد أولاً وآخرًا
لقد حفل الواقع التاريخي للأمة الإسلامية في مختلف عصورها ، و شتى أقدارها ، بأروع مظاهر التسامح، الذي لا يزال الناس يتطلعون إليه في معظم بقاع الأرض فلا يجدونه.
وما عصر صلاح الدين رحمه الله إلا مثلاً من أمثلة كثيرة في تاريخ العدل والإحسان في دولة الإسلام صور ناصعة من هذا التاريخ المشرق ، يقول المؤرخ الشهير “غوستاف لوبون”: (إنَّ المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغَيرة لدينهم، وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى). وقال أيضاً: (إنَّ الأمم لم تعرف فاتحين راحمين مُتسامحين مثل العرب، ولا دِيناً سمحاً مثلَ دِينهم).
قارنوا هذه الحادثة بما جرى للمُسْلِمين في البوسنة وكُوسُوفا و غيرها، وما يجري الآن لهم في العراق و بلاد الشام على أيدي عَبَدة الصليب و حفدة القردة و الخنازير و حميرهم .
تُهْدَم ديارهم، وتُنْتَهَك أعراضهم، وتُباع بناتهم لتجار البغاء والرقيق الأبيض، وفي كل يوم تكتشف مقابر جماعية، دُفِن فيها عشرات المسلمين بعد أن قُطِّعت أطرافهم، ومُثـِّل بأجسادهم وهم أحياء؛ تَلَذُّذًا بتعذيبهم قبل قتلهم في زمن يقال عنه: إنه زمن حفظ حقوق الإنسان!!
فالإسلام خير للبشر لو كانوا يعلمون؛ ولكن أكثر النــاس لا يعقلون. سبحان ربك ربّ العزة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين