كنتُ يوماً أنظر من خلال المجهر إلى نسيج الرئة فدهشتُ لما فيه من إعجاز، ومنذ ذلك الحين أخذتُ على نفسي عهداً ألا أترك إعجازا أعرفه في بنية أجسامنا إلا وحبرته لكَ تحبيرا، وعهدي عليك أن تخرج -إن شاء الله- بجرعة يقين تعصمك من شبهات صدفوية النشأة. لذلك اخترتُ مستعينا بالله أن أشرح شيئا من كتاب معتمد في الطب، وهو: TEXTBOOK OF MEDICAL PHYSIOLOGY, Guyton &Hall, 13th edition
أما بعد…
قد يُخيل إليك أن عملية التنفس عملية بسيطة جدا تبدأ بأخذ الهواء (الشهيق) وتنتهي بإخراجه (الزفير)، لكن الحقيقة غير ذلك إذ هناك ثلة من الصعوبات الفيزيائية التي تجعل الأمر أكثر تعقيدا، ولأن الله قد أحكم صنعنا وأتقنه في أحسن تقويم، فقد زوّد رئتيك بآليات مذهلة لتخطيها:
◄ المشكلة 1: حاول أن تفتح فمك وتتوقف عن التنفس، في هذه الحالة يتساوى الضغط في جوفك مع الضغط الجوي (بعد انتهاء التبادل). وأنت تعلم فيزيائياً أن الهواء ينتقل من منطقة الضغط الأعلى إلى منطقة الضغط الأدنى. تماما مثلما تفتح قارورة الصودا المضغوطة فتسمع صوت الهواء ينطلق منها نحو الخارج، فما الحل؟! نحن نريد أن يخرج الهواء ويدخل، لا أن يبقى معلقًا!!.
← الحل: يقوم صدرك بحيلة ذكية جداً، وكأنه يعلم معادلة الضغط “PV = nRT” فيعلم أن الضغط P ينقص إذا زاد الحجمV . لذلك ببساطة تتقلص عضلة الحجاب الحاجز فتتجه نحو الأسفل (نحو البطن كما في الصورة 1) وينتج عن ذلك زيادة في حجم الصدر وانخفاض الضغط داخله، فيصبح الضغط الجوي أعلى من الضغط في الصدر فيعبر الهواء نحو الداخل.
◄ المشكلة 2: الهواء الذي يدخل عبر نزول الحجاب الحاجز يكفي في الحالات الطبيعية، لكنه لا يكفي عند المجهود إذ نحتاج إلى قدر أكبر من الهواء.
← الحل: هنا أيضاً تقع على آلية عجيبة تعتمد على ذات الحيلة. زيادة حجم الصدر لتخفيض ضغطه لكن هذه المرة عبر رفع عظام القفص الصدري إلى الأعلى وإلى الأمام ( صورة 2 على اليمين)، فيزداد قطر الصدر وبالتالي حجمه فينخفض الضغط أكثر، مما يسمح بدخول كمية هواء أكبر.
◄ المشكلة 3: يأتي دور الزفير، فكيف إذا يخرج الهواء؟
← الحل: جسدك هذه المرة يعتمد على طريقة أخرى تفهمها من خلال البالون. فالبالون إذا نفخته بالهواء ثم تركته، فإنه يُخرج الهواء تلقائيا لأن جداره مزود بقوة التمطيط، كأنك تمسك بمطاطة أو نابض فتشدهما فيعودان إلى وضعهما الأول بمجرد تركهما دون صرف أي طاقة. وهكذا يوفر جسدك مجهوداً أثناء الزفير!. إذ تمتلك الرئتين هذه المرونة بسبب وجود مادة اﻟ “elastin”، فلا تكفر بأنعم الله!. واﻟ “elastin”عبارة عن بروتين يأخذ شكل أشرطة تتوضع ضمن النسيج الرئوي (كما في الصورة 3 -الأشرطة السوداء-)، كما أن هناك عامل آخر يعطي الرئتين المزيد من المرونة ألا وهو التوتر السطحي للسائل الموجود ضمن الأسناخ الرؤية حيث ينكمش السائل تماما مثلما تنكمش قطرة الماء على بعضها.
◄ المشكلة 4: لكن أليس من الممكن أن تؤدي هذه المرونة العالية للرئتين إلى انكماشهما في نهاية الزفير (تذكر مثال البالون الذي ذكرناه سابقاً) فيصبح من الصعب إعادة فتحهما والسماح للهواء بالدخول إليهما؟!!
← الحل: أيكون جسمك أيضاً على علم بقانون ضغط السطح؟! أم تستسلم للكسل وتقول أنها الصدفة والإنتخاب فحسب؟َ! لا تلفتت إلى هذا ولا إلى ذاك بل هي يد اللطيف الخبير. نعم، هناك خلايا في جدران الأسناخ تفرز مادة دهنية سحرية لا يمكن الاستغناء عنها تدعى مادة اﻟ “surfactant” (الصورة 4)، تقوم هذه المادة بإنقاص التوتر السطحي للسائل الموجود ضمن الأسناخ الرئوية، وهذا بدوره يحمي الأسناخ الرئوية من الإنخماص “collapse”!!.
ألا فسبح معي اللطيف الخبير!
المصدر:
TEXTBOOK of MEDICAL PHYSIOLOGY, Guyton &Hall, 13th edition, pages 497-500