خرجت إلى عملك أو إلى الجامعة في فصل الشتاء، وفي طريق عودتك كانت الغيوم قد حجبت الشمس، والأمطار تتساقط بغزارة وأمسى البرد قارسًا، وللأسف لم تأخذ معك معطفك الثقيل تحسبًا إذ لم تستمع اليوم لأخبار الطقس، فبدأت القشعريرة تنتشر في أنحاء جسدك والأسنان تصطك، وأسرعت في إيجاد سيارة لعلك تصل إلى البيت في أسرع وقت لتتخلص من شعور البرد القارس وتحصل على قسط من الدفء.
لكن… انتظر لحظة! ما الذي حصل؟
من أين جاء هذا الشعور ولماذا شعرت به؟ هل فكرت يومًا لماذا تحدث معنا هذه القشعريرة عند شعورنا بالبرد وما فائدتها؟ وما الذي جعلك تبحث عن مكان دافئ لتتخلص من شعور البرد القارس؟
يحتوي جسمك على مستقبلات حرارية تعمل على تحسس درجة حرارة البيئة المحيطة، وأيضًا مستقبلات حرارية داخلية تتحسس درجة حرارة الجسم الداخلية (تحدثنا عنها باختصار في مقال سابق تجدون رابطه في التعليق الأول، تعمل هذه المستقبلات الحرارية على تحسس درجة الحرارة ونقل هذه الإشارات العصبية إلى الجهاز العصبي المركزي ليقوم بتحليل المعلومات وتوجيه الأوامر المناسبة للجسم للقيام بالإجراءات المناسبة، سواء على مستوى ما دون الوعي كتحفيز القشعريرة وتضيق الأوعية الدموية في الجلد وتثبيط التعرق، أو على مستوى الوعي وهو إعطاؤك الشعور غير المريح بالبرودة لتبحث عن مكان دافئ، كما يقوم بالعكس تمامًا عند ارتفاع درجة الحرارة فيحفز التعرق وتتوسع الأوعية الدموية الجلدية، بالإضافة إلى إعطاءك الشعور الواعي بارتفاع درجة الحرارة لتنتقل إلى مكان أقل حرارة أو تخرج مع عائلتك إلى البحر.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن.. كيف يحفز الجسم هذه الآليات ويتحكم بها؟
الأمر مشابه لمثبت الحرارة في جهاز التدفئة تقريبًا حيث يحتوي مثبت الحرارة على حساس (sensor) لكشف درجة الحرارة ومقارن (comparator) لتثبيت نقطة مرجعية عليه، بحيث إن قلت درجة الحرارة تحت مستوى هذه النقطة يعمل على إغلاق الدارة الكهربائية لينتج مزيدًا من الحرارة، فإذا زادت الحرارة فوقها يفتح المقارن الدارة ليمنع المزيد من توليد الحرارة.
وبنفس الآلية يقوم جسمك بالحفاظ على اتزان بين توليد الحرارة وفقدانها مستندًا إلى نقطة مرجعية تسمى بنقطة الضبط set point تتحدد بواسطة المستقبلات الحرارية في النواة الوطائية الأمامية وتعمل كالمقارن.
تبلغ النقطة المرجعية 37.1 درجة مئوية تقريبًا، بحيث إن قلت درجة حرارة الجسم الداخلية أو درجة حرارة المحيط تحت مستوى هذه النقطة المرجعية يبدأ بتوليد الحرارة بتحفيز الآليات التي ذكرناها في المقال السابق كالقشعريرة وزيادة العمليات الأيضية، وآليات للحفاظ عليها كتضييق الأوعية الدموية الجلدية، كما تثبط آليات فقدان الحرارة كتثبيط التعرق، وبشكل معاكس أيضًا عند ارتفاع درجة الحرارة فوق مستوى هذه النقطة المرجعية يعمل على تثبيط آليات توليد الحرارة وتحفيز آليات فقدانها كالتعرق للوصول إلى المستوى الطبيعي.
ما الفائدة من هذه النقطة؟
من الفوائد الخاصة بهذه النقطة أنَّ الدرجة المثلى لعمل الأنزيمات في الجسم هي درجة الحرارة من 37 إلى 40 درجة مئوية، وهذا يفسر خطورة ارتفاع درجة حرارة الجسم ل40 درجة مئوية فما فوق أو انخفاضها لأقل من 37 درجة مئوية، وضرورة الحفاظ على هذا الاتزان.
كما أنَّ لنقطة الضبط دورًا مهمًا في الحمى، فمثلًا قد يصيب الوطاء ضررٌ سواء جلطة أو مواد كيميائية ناتجة عن بكتيريا تؤثر في مراكز تنظيم الحرارة، مما يؤدي لخلل في تنظيم نقطة الضبط (النقطة المرجعية) بحيث ترتفع نقطة الضبط نفسها -وليس حرارة الجسم- عن المستوى الطبيعي فيعتقد الجسم أن حرارته منخفضة فيحفز آليات توليد الحرارة -كالقشعريرة وهذا الذي يفسر الإصابة بالقشعريرة عند الإصابة بالحمى- للوصول إلى مستوى نقطة الضبط الجديد، ولعلنا نفرد لهذا الموضوع مقالًا بإذن الله.
كيف تعمل هذه الآليات؟
أهم آليتين:
1-القشعريرة:
هي إحدى آليات توليد الحرارة تُستحث عند انخفاض درجة الحرارة إلى أقل من مستوى نقطة الضبط ولو بأجزاء كسرية بسيطة بتحفيز من النواة الوطائية الخلفية في منطقة تسمى المركز الحركي الأساسي للقشعريرة (primary motor center for shivering) وهي زيادة في التوتر العضلي (muscle tone) – وليست انقباضات عضلية حقيقية –
وتكمن أهميتها في أنها إحدى الطرق التي يستخدمها الجسم لتوليد الطاقة (thermogenesis) في عملية تسمى (shivering thermogenesis).
2-إنتاج الطاقة الكيميائي (chemical thermogenesis):
هي عملية لتوليد الطاقة بدون الحاجة للقشعريرة عبر زيادة العمليات الأيضية للخلايا، لذلك تسمى هذه العملية بإنتاج الطاقة غير المعتمد على القشعريرة (non-shivering thermogenesis)، وهي ناتجة عن مقدرة النورإبينفرين والإبينفرين على فك ارتباط الفسفرة في عملية الفسفرة المؤكسدة، بحيث تتولد طاقة حرارية بدلًا من تكوين ATP.
ختامًا علمنا أن الجسم يحتوي على مستقبلات حرارية تعمل كمجسات تستكشف الحرارة المحيطة وحرارة الجسم الداخلية وترسل هذه المعلومات إلى الجهاز العصبي المركزي لتحليلها وإعطاء الأوامر والتوجيهات اللازمة للجسم بناءً على نقطة مرجعية وهي نقطة الضبط (set point)، وعلمنا أن القشعريرة ما هي إلا ردة فعل طبيعي وإحدى آليات توليد الحرارة لإرجاع حرارة الجسم إلى الحالة الطبيعية، فسبحان الذي أحسن كل شيء خلقه وسبحان الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا.
أخيرًا عليك الاهتمام بأخبار الطقس قبل خروجك من المنزل في يومٍ متقلب
المصادر:
John E. Hall (2011) ‘Body Temperature Regulation and Fever’, in John E. Hall (ed.) Guyton and Hall textbook of medical physiology. Philadelphia, PA: Saunders Elsevier, pp. 871, 872, 873, 875.
Denise R. Ferrier (2014) ‘Factors Affecting Reaction Velocity’, in Denise R. Ferrier (ed.) Biochemistry. Philadelphia, PA: Walters Kluwer, lippincott Williams & Wilkins, pp. 114