موقف كارل بوبر من نظرية التطور
من الشائع جداً في الحوارات حول نظرية التطور أن نجد كلا الفريقين، المؤيدين والمعارضين، يدعي أن (بوبر) في صفه، مع أنه في الكثير من الأحيان، فإن الكثيرين من كلا الفريقين لا يفهمون ما هي فلسفة بوبر أصلاً، وبالتالي لا يفهمون ما هو موقفه حقاً من نظرية التطور.
بداية، فإن فلسفة بوبر الأساسية تدور حول أن اختبار النظريات العلمية لا يحتاج أن تكون فروض النظرية قابلة للتأكيد من الأساس، بل يكتفي بوبر بأن تطرح النظرية فروضاً قابلة للتكذيب.
فالهدف من البحث العلمي برمته عند بوبر هو الإتيان بدليل “سلبي” ينفي الفرضيات، وليس الإتيان بدليل “إيجابي” يؤيدها.
يصف بوبر منهجه هذا قائلاً:
“لن أعترف بالتأكيد بنظام تجريبي أو علمي إلا إذا كنا قادرين على اختباره بالتجربة. تشير هذه الاعتبارات إلى أننا يجب أن نعتبر (قابلية التكذيب) بديلاً عن (قابلية التأكيد) كمعيار لتمييز العلم. بعبارة أخرى: لن أطلب نظامًا علميًا يمكن تأكيده، مرة واحدة وإلى الأبد، بشكل إيجابي؛ لكني سأطلب أن يكون شكله المنطقي يمكن تمييزه عن طريق الاختبارات التجريبية، بالمعنى السلبي: أي يجب أن يكون من الممكن دحض النظام العلمي من خلال التجربة.” (1)
بناءاً على هذا المنهج، حكم بوبر على نظرية التطور عام 1974 أنها ليست نظرية علمية، بل إطار (ميتافيزيقي) قائلاً: “خلاصة ما توصلت إليه أن الداروينية ليست نظرية علمية قابلة للاختبار، بل هو برنامج ميتافيزيقي” (2)
ويقول أيضاً عن الانتقاء الطبيعي: “إن القول بأن نوعًا ما يعيش الآن، عاش لأنه تكيف مع بيئته، هو في الواقع مجرد حشو (أي لا يفسر شيئاً)” (3)
ويقول أيضاً: “إن الداروينية ليست أفضل بكثير من النظرة الدينية عن تكيف الكائنات؛ لذلك من المهم أن نظهر أن الداروينية ليست نظرية علمية، لكنها ميتافيزيقية” (4)
ويعني هذا الحكم ببساطة أن بوبر رأى أن الداروينية نظرية غير قابلة للتكذيب، وبالتالي فهي ليست نظرية علمية.
وأوضح بوبر في نفس الكتاب أنه حين يقول “الداروينية” فإنه يعني “الداروينية الحديثة، أو النظرية التركيبية الحديثة”.
في عام 1977، في المحاضرة التي ألقاها بوبر في كلية داروين، بجامعة كامبريدج، بتاريخ 8 نوفمبر، والتي نشرت عام 1978، تغير موقف بوبر “قليلاً” من نظرية التطور، وأقول قليلاً لأنني سأعرض رأيه بالتفصيل وليس عن طريق جمل مختصرة مقتطعة من سياقها كما يفعل الكثيرين. يقول بوبر عن تغير موقفه:
“عند الحديث عن الداروينية، سأتحدث دائمًا عن نظرية العصر – إنها النظرية الخاصة بداروين للانتقاء الطبيعي المدعومة بالنظرية المندلية عن الوراثة، وبنظرية الطفرة والتوليف الجيني بين مجموعة من الجينات، وبفك الشفرة الوراثية. إنها نظرية قوية ومثيرة للإعجاب بشدة. لكن الزعم بأنها تشرح التطور بالكامل هو بالتأكيد زعم جريء، وبعيد جدًا عن التأكيد..
لقد تم اختبار الدعم المندلي للدراوينية الحديثة بشكل جيد، وكذلك فكرة التطور التي تقول إن جميع صور الحياة البرية قد تطورت من أصل عدد قليل من الكائنات الحية البدائية وحيدة الخلية، والتي ربما حتى يعود أصلها إلى كائن واحد.
ومع ذلك، فإن إسهام داروين الأهم في نظرية التطور، نظريته عن الانتقاء الطبيعي، يصعب اختبارها.
هناك بعض الاختبارات، وحتى بعض الاختبارات التجريبية؛ وفي بعض الحالات، مثل الظاهرة الشهيرة (اسوداد الجلد الصناعي)، يمكن ملاحظة حدوث الانتقاء الطبيعي أمام ناظرنا، إن جاز التعبير.
ومع ذلك، يصعب تجاوز الاختبارات القاسية حقًا لنظرية الانتقاء الطبيعي، بشكل يفوق كثيرًا اختبارات النظريات الأخرى المشابهة في الفيزياء أو الكيمياء.
إن حقيقة أن نظرية الانتقاء الطبيعي يصعب اختبارها أدت ببعض المعارضين للداروينية وحتى بعض الداروينيون العظماء، إلى القول بأنها مجرد حشو كلام.
الحشو المشابه لجملة (جميع الجداول تعتبر جداول) غير قابل للاختبار بالتأكيد؛ كما أنه ليس له أي قوة إيضاحية. لذلك فإن الأمر أكثر إثارة للدهشة أن نسمع أن بعض أعظم الداروينيون المعاصرون يصيغون النظرية بهذه الطريقة لدرجة وصفها بالحشو القائل: إن الكائنات التي تنتج معظم الذرية تنتج معظم الذرية.
حتى أن سي إتش أدينجتون يقول في مكان ما (ويدافع عن وجهة النظر هذه في أماكن أخرى) إن “الانتقاء الطبيعي يتضح أنه حشو” ومع ذلك، يعزي في نفس المكان إلى النظرية “قوة هائلة للتفسير”. وبما أن القدرة التفسيرية للحشو منعدمة، فإن هناك بالتأكيد خطأ ما هنا..
لقد حاولت أن شرح كيف أن نظرية التطور الطبيعي يمكن أن تكون غير قابلة للاختبار (كحال ما هو حشو)، ومع ذلك فإنها ذات أهمية علمية كبيرة. انطوى حلي على أن عقيدة الانتقاء الطبيعي تمثل برنامج البحث الميتافيزيقي الأكثر نجاحًا، حيث تثير مشكلات مُفصلة في العديد من المجالات، كما تخبرنا بشأن ما قد نتوقعه كحل مقبول لهذه المشكلات.
لازلت أعتقد أن الانتقاء الطبيعي يعمل بتلك الطريقة كبرنامج أبحاث (ميتافيزيقي). ومع ذلك، غيرت رأيي بشأن قابلية الاختبار والوضع المنطقي لنظرية الانتقاء الطبيعي؛ ويسرني أن أحظى بالفرصة للاستدراك. قد يسهم استدراكي، حسبما آمل، قليلًا في فهم مكانة الانتقاء الطبيعي.
في صورتها الأكثر جرأة وشمولًا، تؤكد نظرية الانتقاء الطبيعي على أن جميع الكائنات الحية قد تطورت، وخصوصًا جميع تلك الأعضاء المعقدة للغاية التي قد يُفسر وجودها كدليل على التصميم الذكي، وجميع صور السلوك الحيواني، قد تطورت كنتيجة للانتقاء الطبيعي؛ أي، كنتيجة للاختلافات القابلة للتوريث بالصدفة، التي يتم فيها التخلص من الاختلافات عديمة الفائدة، حتى تبقى المفيدة فقط.
إن صيغت النظرية بهذه الطريقة الشاملة، لا تعد النظرية قابلة للتفنيد فقط، بل ومدحضة. حيث لا تخدم جميع الأعضاء أغراضًا مفيدة؛ مثلما أشار داروين نفسه، بل هناك أعضاء مثل ذيل الطاووس، وبرامج سلوكية مثل استعراض الطاووس لذيله، والتي لا يمكن تفسيرها حسب منفعتها، وبالتالي ليس بالانتقاء الطبيعي. فسرها داروين بتفضيل الجنس الآخر؛ أي الانتقاء الجنسي. بالتأكيد يمكن تجاوز هذا الدحض بواسطة بعض المناورات الكلامية، بل يمكن تجاوز أي دحضٍ لأي نظرية.
لكن عند ذلك نقترب من جعل النظرية مجرد حشو. يبدو أفضل كثيرًا الاعتراف بأنه ليس كل ما يتطور يكون مفيدًا، رغم أن عدد هذه الأشياء مذهل؛ وأنه من أجل تخمين وجه الاستفادة من أحد الأعضاء أو البرامج السلوكية، نخمن تفسيرًا محتملًا بواسطة الانتقاء الطبيعي؛ لسبب تطورها بهذا الشكل، وربما حتى لكيفية تطورها.
بعبارة أخرى، يبدو لي أنه كحال نظريات عديدة في الأحياء، لا تعد نظرية الانتقاء الطبيعي شاملة بدقة، رغم أنها تبدو منطقية في عدد كبير من الحالات (الحالات المرصودة بالنسبة لنا، وهي الحالات التكيفية).
سألخص الآن سريعًا ما قلته حتى الآن بشأن نظرية الانتقاء الطبيعي لداروين.
قد يكون من الممكن صياغة نظرية الانتقاء الطبيعي بشكل جيد لدرجة تجعلها بعيدة عن الحشو. في هذه الحالة لا تعد النظرية قابلة للاختبار فقط، بل يتضح أنها ليست صحيحة على نحو شامل” (5)
إذاً، فملخص ما قاله بوبر هو:
1- النظرية يمكن أن تكون مجرد حشو وتكرار غير علمي
2- يمكن صياغة النظرية بشكل يجعلها علمية وقابلة للاختبار إن تمت صياغة الفرضية على النحو التالي (جميع الكائنات الحية، وجميع الأعضاء المعقدة، وجميع صور السلوك الحيواني، قد تطورت كنتيجة للانتقاء الطبيعي)، وإن تمت صياغتها بهذا الشكل، فإن النظرية تكون “غير صحيحة” أو كما قال في موضع آخر، فإن تلك الصياغة تجعل النظرية “مدحضة”.
وهذا ليس فهمنا فحسب، بل يؤكد ذلك الفهم الورقة البحثية المنشورة حديثاً عام 2017 والتي حللت موقف بوبر بين عامي 1974 و1978، وخرجت بنفس التحليل الواضح من عبارات بوبر.. أن موقف بوبر من نظرية التطور، لم يتغير في الواقع. (6)
إن موقف بوبر في تلك المحاضرة واضح جداً في الحقيقة، لكن يا للأسف يتم اقتطاع جملة واحدة من كل المحاضرة لإيهام القارئ أن بوبر أصبح يرى النظرية علمية، بل وصحيحة!
والآن، نزيدكم من الشعر بيتاً.
لا يعرف معظم الناس أن بوبر كانت له محاضرة ألقاها عام 1986 وكانت من آخر ما تكلم فيه عن الداروينية. بقيت هذه المحاضرة حبيسة الأدراج، ولم يتم نشرها إلا عام 2014. في تلك المحاضرة، هاجم بوبر الداروينية مرة أخرى من ناحيتين:
1- هاجم بوبر العقيدة المركزية للداروينية الحديثة عن أن الـ DNA هو قالب للقراءة فقط، وجادل أن الاكتشافات الحديثة توضح أن الكود الجيني يمكن تعديله عن طريق التعبير العكسي (reverse transcription) وليس ثابتاً.
2- وجادل بوبر أن هذه التعديلات لا يمكن أن تكون وليدة الصدفة، وأن هذه التعديلات والتكيفات لابد لها من ذكاء وبرنامج.
نشرت هذه المحاضرة في الكتاب المنشور عام 2014، ويقول المؤلف في مقدمة الكتاب: “بعد عشرين عامًا من وفاة بوبر، يلقي كتاب الفصل الأخير نظرة على أفكاره البيولوجية في ضوء النتائج الجديدة للبيولوجيا الجزيئية. تبين أن هجومه في ذلك الوقت على العقائد طويلة الأمد للنظرية التطورية كان مبرراً إلى حد كبير.
تبدو البيولوجيا الجديدة مناسبة تمامًا لدعم مسعى بوبر للتغلب على الجوانب القاتمة للداروينية التي جعلت الكائنات الحية أجزاءً سلبية في آلية المنافسة المميتة. ليست الصدفة العمياء ولا الانتقاء الطبيعي هي القوى الإبداعية لكل الحياة، بل المعرفة والنشاط. ولا يزال كيفية ظهور المعرفة سراً وبرنامج بحثي جدير بالاهتمام.” (7)
ولذلك، فإن موقف بوبر من التطور ليس موقف المؤيد على الإطلاق، بل موقفه يتأرجح بين أن النظرية (كلام فارغ وحشو كلام)، وبين (قابلة للتكذيب) ومدحضة.
قائمة المصادر:
(1) Karl Popper, 2002, Unended Quest, London: Routledge, Originally published in 1976
(2) المصدر السابق – ص 199
(3) المصدر السابق – ص 200
(4) المصدر السابق – ص 197
(5) Karl Popper, Natural Selection and the Emergence of Mind, Dialectica 32:339-355, 1978. See pp. 344-346
(6) Mehmet Elgin and Elliott Sober, 2017, The Journal of the International Society for the History of Philosophy of Science, 7:1, pp 31-55
(7) Introduction to “Karl Popper and the Two New Secrets of Life – Including Karl Popper’s Medawar Lecture 1986 and Three Related Texts”, Hans-Joachim Niemann, 2014, Mohr Siebeck; 1st edition