ميزانُ المشاعرِ، وعلمُ النفس الإيجابي
هل استمعت يومًا لمحاضرة تنمية بشرية؛ فأخبرك المحاضرُ أن تقف أمام المرآة؛ لتُخبرَ نفسك أنك جميلٌ، وقوي، وأن أصدقاءك يحبونك، وأن لديك أسرةً سعيدة، وأنك أكفأ شخصٍ في عملك، وأن كل مشاكلك واهيةٌ، وهى من صُنع خيالك، وأن هذه الطريقة ستساعدك على حلها؟ ?
حسنًا، هل هو على حق؟ هل نظرته صحيحة للبشر؟
لا أحد يريد أن يشعر بالسوء؛ فالجميع يسعى إلى الطاقة الإيجابية، والازدهار بالاستزادة من الخير، مع عدم التطرق للشر المادي، أو المعنوي، الذي يعانيه، ولكن!
هل هذا ما تَصلُح به الحياةُ حقًا؟
يُخبرنا عالم النفس James Pawelski عن طبيعة علم النفس الإيجابي؛ فيشبِّه الأمرَ بقبعتين خارقتين: قبعة حمراء، إذا ارتداها الإنسان؛ يكون عنده القوة لمحاربة الفقر، والظلم، والجوع، والعنف، (أي إزالةِ السوءِ)، بينما هناك قبعة خضراء، تكمُن قوتها في القدرة على إنماء التناغم، والعدل، والتفاهم، (أي إضفاءِ الخيرِ).
وعلى الرغم من أن الأغلبية إذا خُيِّرت؛ ستختار القبعة الخضراء، إلَّا أنه يخبرنا أن: “الإيجابية لن تتحقق إلا بالتوازن بين القبعتين”؛ فمواجهة المشاكل، والمخاطر، والوعي بها،وحلها؛ هو الطريق غير المباشر لتحقيق الازدهار.
وفي مقالته (تعريف الإيجابية في علم النفس الإيجابي) المنشورة على (Journal of positive psychology)؛ يُخبرنا عن بعض أسس النظرة الصحيحة للأمور, التي تساعدنا على تقييمِها بما يحقق الإيجابية النفسية الواقعية؛ حيث تحدث لك كثيرٌ من الأمور دون أن تعيَّ ذلك؛ لنقص علمٍ, أو حكمة، ومنها:
جزء 1 : https://www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/17439760.2015.1137628?journalCode=rpos20
جزء 2 : https://www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/17439760.2015.1137628?journalCode=rpos20
1- عدم إصابتك بأشياء لا تريدها (كالمرض)، هو على نفس الدرجة من الإيجابية، كحصولك على الأشياء التي تمنيتها، كالتعليم! (مثلًا، يقضي مرض السل على [1.7] مليون إنسان سنويًا، وعام [2014] أصاب [9] ملايين إنسان، لم تكن أنت منهم، مات منهم [1.5] مليون, بعد أن قاسوا مرارة المرض. ويلقى [1.25] مليون شخص سنويًا حتفَهم؛ نتيجة لحوادث المرور، ليس منهم أحدٌ من أحبابك، وعشرات الملايين من المصابين بالسرطان، سنويًا، يبدأ صراعهم مع المرض. فعدم إصابتك بذلك، هى ناحية إيجابية تتطرق إليك كل يوم، ولو لم يتحسن وضعك العادي، فتلك منحة العافية من الله تصيبك )
2- لا تعني المشاعر الإيجابية الأمر الحسن بالضرورة، ولا تعني المشاعر السلبية السوء بالضرورة:
لعل الخير يكمُن في الشر، لكن لنقصِ حكمةٍ منك؛ قد لا تعي جانب الخير. فمثلًا، رأيت شخصًا ينتزع أحشاء إنسانٍ آخر، يأخذ سكينًا، ويشق بطنه؛ وينزل الدم، ويبدأ بالاستئصال! فترى هذا شرًا مطلقًا، لا يمكنك أن ترى فيه وجهَ خيرٍ، لكن عند معرفتك لمهنة الطبيب الجراح، وأن ذلك طبيبٌ، يستأصل الزائدة الدودية الملتهبة من المريض؛ فستعلم أن الأمر برمته خيرٌ.
وبنفس تلك النظَّارة، يصبح تقبُّلك لأهمية وجود توازن في مشاعرك سهلًا؛ فلا تنفر من كل ما يبث فيك مشاعرًا سلبية (الدراسة، أو الصبر على ترك معصية)، ولا تستحسن كل ما يبث فيك المشاعر الإيجابية (أمور قد تضرك بإضاعة كثيرٍ من الوقت؛ أو لأسبابٍ أخرى), ولكن كما لكل مقامٍ مقال، فلكل موقف حياتي ميزانه العاطفي ?
فلنفترض أن العالَم أصبح تسوده المشاعر الإيجابية فقط؛
فما هو نوع العالم الذي يُرى فيه الظُلم، فلا يُغضب له؟!
ويَفعل المرء فيه الجرائم، ولا يشعر بالذنب؟!
ويموت الناس، فيذهب ذويهم للاحتفال؟!
أي إنجازٍ سيُحرَز، في حالة عدم الخوف من الخسارة، والفشل؟ هل ستبقى إنسانًا!
وأي اختبارٍ أنت فيه من الله إذًا؟!
يريدُ الجميع أن تغمره (دائمًا) مشاعر الأمن، والسلام، والرضا، والفرح، لكن!
ليس هكذا تستقيمُ الحياة.
المصدر: (في التعليقات)
ومَن أعلمُ بك من خالقك؟
{{ألَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}}
علم أنك قد تيأس مما يصيبك؛ فبشرك: {{ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}} [البقرة، 155]، وبشرك باليسر في العسر: {{فإن مع العسر يسرًا . إن مع العسر يسرًا}} [الشرح، 5-6]، وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ، إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ، وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ، إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ؛ شَكَرَ؛ فكانتْ خَيرًا لهُ, وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ؛ صَبرَ؛ فكانتْ خَيرًا لهُ “. رواهُ مُسْلِمٌ.
علم أنك قد تُخطئ تقديرَ الأشياء، والحكم على خيريَّتِها، وشرها؛ بسبب جهلك ببواطنها، وعواقبها الغيبية في الدنيا والآخرة؛ فطمئنك بقوله:{{ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }} [البقرة، 216]؛ حتى لا تحزن على شيءٍ فاتك، أو تكره ما قُسم لك، تمامًا مثل الجراحة، التي هي خير، رغم ظاهرها ?
وهذا أحد الأسباب العديدة، بأن سورة الكهف نورٌ للمؤمن بين الجمعتين (الأحداث التي جرت مع سيدنا موسى والخضر).
عَلِمَ أنك تحتاج للترغيب، والترهيب؛ ليَصْلُحَ حالك، وتبتعد عما تراه يبث فيك شعورًا جيدًا، لكنه في النهاية أمر سيء، فدون الترغيب والترهيب؛ قد لا تقاوم ذلك الشعور، فقال: {{ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ }} [الحجر، 49-50].
فعلاقتنا برب العالمين بين الخوف والرجاء، خوفٌ عند الإقبال على المعصية، ورجاءٌ عند التوبة، وهو القائل أيضًا:{{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ }} [الرحمن، 46]، فالخوف هنا إيجابي، ينجِّى من المهلكات، ويُبعِّد عن الموبقات، ويُقرِّب من الطاعات؛ فيكون سببًا في النجاة، والفوز العظيم بالجنات.
فمن يَسخر من القانون الإلهي في الثواب والعقاب، بدعوى أنه يُنقِص من القيمة الأخلاقية؛ هو جاهلٌ بالنفس البشرية، وما طُبعت عليه، وغافلٌ عن طبيعة تلك الحياة الدنيا، ومغترٌ بالمادية، التي لا يمكنها أن تُعَّرِف -فضلًا عن أن تمنع- الخير والشر.
في النهاية، أنت تحتاج للتوازن في حياتك؛ فلا تبتئس بما تَلقى أو تشعر، بل تصالح معه، وخذ بأسباب الازدهار، وحوِّل السلبي منه لإيجابي. فلولا الشرُ؛ ما عُرف الخير، ولولا الشدةُ، ما عُرف الرخاء، وكما قال المتنبي: “وبضدها تتبين الأشياءُ”.
ثم بعد التوازن والرضا، نأتي لحل المشكلات. والتى يكون بعضها شخصيًا، وبعضها يحتاج حلًا مجتمعيًا: {{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب}} [الأنفال، 25]
تابعنا في المقال القادم -والذي يُعد جزءًا متصلًا، ومنفصلًا عن هذا المقال- بعنوان “لا تَعجزْ”.
المصادر: https://www.coursera.org/learn/positive-psychology-applications/
https://www.who.int/ar/news-room/fact-sheets/detail/road-traffic-injuries
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC4788904/