لا شك أن مجال التاريخ عرضة للأخطاء سواء المتعمدة (عن طريق التحريف لأغراض سياسية أو دينية أو عِرقية أو التأويل أو الإخفاء واستقطاع الحقائق)، أو غير المتعمدة (عن طريق أخطاء النقل غير المقصودة أو النقل عن الكاذبين دون تمحيص وتأكد أو أخطاء في فهم المنقول).
لكن الشيء الأكيد أن الحق يظل دوماً موجوداً لمَن يبحث عنه ويجتهد في الوصول إليه.
ومن ذلك : أننا كنا نشرنا من قبل عن بعض أخبار وصول مسلمين إلى أمريكا قبل كولومبوس بقرون، ولكن نبهنا أحد متابعينا لبعض الأخطاء غير المقصودة التي سنوضحها بعد قليل، ولما كان الحق أحق أن يتبع كما تعلمنا من ديننا الإسلام، فإليكم أهم الأخطاء المنتشرة التي وقفنا عليها خلال إعادة بحثنا في تلك المسألة، وسوف نذكرها في نقاط كالتالي :
– 1
هناك فارق كبير بين مجرد (الوصول) وبين (الاكتشاف)، فمن جهة الوصول فلا شك أن أقواما وأفرادا عديدة وصلت إلى الأمريكيتين قبل كولمبوس بقرون على فترات متفرقة، سواء من الفينيقيين قبل الميلاد إلى سواحل البرازيل، أو الفايكنج من شمال أوروبا إلى شمال شرق كندا، مرورا بأفراد من أمم وشعوب أخرى من الصين وإسبانيا وغرب أفريقيا (سواء من المسلمين أو غيرهم) وكما دلت عليه بعض الآثار المتفرقة.
لكن هذا الوصول لم يصنع تحولا في التعريف بالأمريكيتين لدى العالم القديم ولم يعقبه نشر واطلاع للبشر في أفريقيا وأسيا وأوروبا بوجود الأمريكيتين أو وصفهما، فلم يعقبه كتابات عنهم ولا ذكر مفصل لهم في كتبهم وتأريخاتهم، وهو ما يعاكس الذي وقع مع كولومبوس (رغم أنه كان يظنها امتدادا لآسيا والهند)، حيث أعقب اكتشافه تعريف العالم بالأمريكيتين وبدء ذكرهما وشعوبهما في الكتابات والتأريخ والتعامل منذ ذلك الوقت.
– 2
ومن النقطة السابقة نأخذ مثالا للتوضيح وهو : إذا كان المسلمون وصلوا إلى أمريكا قبل كولمبوس بقرون بل (وكما زعم البعض) انتشر الإسلام فيها بأعداد كبيرة بين شعوبها والهنود الحمر : فكيف لم يصلهم وجوب الحج والسفر له كمثال ؟ لماذا لم يتم ذكر أولئك المسلمين في كتب التأريخ الإسلامية قبل كولمبوس ؟
– 3
وإذا وصلنا إلى هنا فتجدر الإشارة إلى خريطة الريس بري Piri Re‘is العثماني، حيث ينشرها البعض للأسف على أنها سابقة لكولومبوس وفيها رسم واضح لسواحل الأمريكيتين، والحقيقة أن خريطة الريس بري بالفعل تعد إنجازا إسلاميا وعثمانيا في وقتها باعتبارها أدق وأشمل خريطة لسواحل الأمريكيتين، لكن الذي لا يذكره البعض للأسف (أو لا يعلمه أو لا يلاحظه حتى من الكتابات على الخريطة نفسها) هو أن :
– تاريخ رسم الخريطة هو (1513م ).
– في حين أن كولومبوس مات قبلها بسنوات (1506م). !!
– فالخريطة صدرت بعد اكتشاف كولمبوس لأمريكا بـ 21 عاما.
– وكان السبب هو أمر للقائد العثماني البحري بيري ريس برسم خريطة لأمريكا (وليس بالذهاب إلى أمريكا) فكان الإنجاز الذي يُحسب له هو قدرته على هذا التجميع من خلال أكثر من 20 خريطة إسبانية مع خرائط أخرى (ذكر بنفسه على خريطته المجمعة أن منها خرائط لكولمبوس سواء من خبرته البحرية أو مما استفاده من بعض المسلمين الإسبان وغيرهم).
– 4
يستدل البعض أيضا بقصة الشباب المسلم من الأندلس التي ذكرها المسعودي باختصار فزعموا أنهم وصلوا إلى أمريكا (وللأسف يتم ذكر قصة أخرى معها عن شباب مسلم أيضا رواها الإدريسي لكن بتفصيل أكثر على أنهما قصتين مختلفتين في حين أنهما قصة واحدة) وبالنظر إلى تفاصيل القصة من كتاب الإدريسي (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) أو (كتاب روجر) والذي يعد أحد أشهر الكتب الجغرافية في القرن الثاني عشر الميلادي نرى تلخيصها في أن :
شباباً مسلمين من الأندلس أرادوا اكتشاف ما وراء بحر الظلمات (المحيط الأطلسي وكان الناس يقولون أنه آخر العالم المعروف ولا شيء بعده) فأعدوا سفينة ومؤونة تكفيهم لشهور ثم انطلقوا من الأندلس غربا في خط مستقيم لكنهم بعد أيام وصلوا إلى منطقة من البحر مظلمة وبحر صعب عليهم اجتيازه فانطلقوا جنوبا (وهذه التفصيلة في الانطلاق جنوبا لا يذكرها البعض للأسف وعلى ذلك تبدو بقية القصة كما لو أنهم وصلوا لأمريكا) حتى وصلوا إلى جزر فيها حيوانات ولم يجدوا فيها بشرا ثم منها إلى جزر مأهولة وصفوا رجالها بالشعر الأشقر ونساءهم بالجميلات (وهو ما يطابق حسب المسار وأيام الإبحار جزر الكناري غرب المغرب العربي) وهناك أتوا لهم بترجمان يتحدث العربية ثم تم القبض عليهم وترحيلهم إلى أن وصلوا إلى المغرب.
فهذه التفاصيل للأسف يتم تجاوزها (عمداً أو خطأ أو جهلاً أو نقلاً مبتوراً) ليتم الإيحاء بأنهم وصلوا إلى الأمريكيتين رغم أن سكان أمريكا من الهنود الحمر ليسوا بهذه المواصفات الجسمية واللونية.
وهذا النص الكامل للمذكور من الجزء 2 – ص 548 :
” ومن مدينة لشبونة كان خروج المغررين في ركوب بحر الظلمات ليعرفوا ما فيه وإلى أين انتهاؤه كما تقدم ذكرهم ولهم بمدينة لشبونة بموضع بمقربة الحمة درب منسوب إليهم يعرف بدرب المغررين إلى آخر الأبد وذلك أنهم اجتمعوا ثمانية رجال كلهم أبناء عم فأنشئوا مركبا حمالا وأدخلوا فيه من الماء والزاد ما يكفيهم لأشهر ثم دخلوا البحر في أول طاروس الريح الشرقية فجروا بها نحوا من أحد عشر يوما فوصلوا إلى بحر غليظ الموج كدر الروائح كثير التروش قليل الضوء فأيقنوا بالتلف فردوا قلاعهم في اليد الأخرى وجروا مع البحر في ناحية الجنوب اثني عشر يوما فخرجوا إلى جزيرة الغنم وفيها من الغنم ما لا يأخذه عد ولا تحصيل وهي سارحة لا راعي لها ولا ناظر إليها فقصدوا الجزيرة فنزلوا بها فوجدوا بها عين ماء جارية وشجرة تين بري عليها فأخذوا من تلك الغنم فذبحوها فوجدوا لحومها مرة لا يقدر أحد على أكلها فأخذوا من جلودها وساروا مع الجنوب اثني عشر يوما إلى أن لاحت لهم جزيرة فنظروا فيها إلى عمارة وحرث فقصدوا إليها ليروا ما فيها فما كان غير بعيد حتى أحيط بهم في زوارق هناك فأخذوا وحملوا في مركبهم إلى مدينة على ضفة البحر فأنزلوا بها فرأوا فيها رجالا شقرا زعرا شعور رؤوسهم سبطة وهم طوال القدود ولنسائهم جمال عجيب فاعتقلوا منها في بيت ثلاثة أيام ثم دخل عليهم في اليوم الرابع رجل يتكلم باللسان العربي فسألهم عن حالهم وفيما جاؤوا وأين بلدهم فأخبروه بكل خبرهم فوعدهم خيرا وأعلمهم أنه ترجمان الملك فلما كان في اليوم الثاني من ذلك اليوم أحضروا بين يدي الملك فسألهم عما سألهم الترجمان عنه فأخبروا بما أخبروا به الترجمان بالأمس من أنهم اقتحموا البحر ليروا ما به من الأخبار والعجائب ويقفوا على نهايته فلما علم الملك ذلك ضحك وقال للترجمان خبر القوم أن أبي أمر قوما من عبيده بركوب هذا البحر وأنهم جروا في عرضه شهرا إلى أن انقطع عنهم الضوء وانصرفوا من غير حاجة ولا فائدة تجدي ثم أمر الملك الترجمان أن يعد القوم خيرا وأن يحسن ظنهم بالملك ففعل ثم انصرفوا إلى موضع حبسهم إلى أن بدأ جري الريح الغربية فعمر بهم زورق وعصبت أعينهم وجرى بهم في البحر برهة من الدهر قال القوم قدرنا أنه جرى بنا ثلاثة أيام بلياليها حتى جيء بنا إلي البر فأخرجنا وكتفنا إلى خلف وتركنا بالساحل إلى أن تضاحى النهار وطلعت الشمس ونحن في ضنك وسوء حال من شدة الكتاف حتى سمعنا ضوضاء وأصوات ناس فصحنا بجملتنا فأقبل القوم إلينا فوجدونا بتلك الحال السيئة فحلونا من وثاقنا وسألونا فأخبرناهم بخبرنا وكانوا برابر فقال لنا أحدهم أتعلمون كم بينكم وبين بلدكم فقلنا لا فقال إن بينكم وبين بلدكم مسيرة شهرين فقال زعيم القوم وا أسفي فسمي المكان إلى اليوم آسفي وهو المرسى الذي في أقصى المغرب وقد ذكرناه قبل هذا.”
– 5
أما بالنسبة للأسماء العربية والإسلامية التي وجدت في الأمريكيتين من جزر ومناطق ونحوه فغالبا ترجع لسببين رئيسيين وهما :
أولا :
أثناء اكتشاف كولمبوس لأمريكا حيث أن عددا ممن كانوا معه كانوا أسبانا ومسلمين، وعلى ذلك كانت التسمية للكثير من الأماكن بأسماء أشخاص عرب ومسلمين ومدن عربية وإسلامية شهيرة. وكذلك كانت النقوش والكتابات الإسلامية والعربية التي تم العثور عليها في عدة أماكن. أيضا هناك نص يساء فهمه وهو عن رؤية كولمبوس لما يشبه المئذنة الإسلامية، فتم تغييره إلى رؤيته لمئذنة إسلامية، وفرق كبير بين التعبيرين.
ثانيا :
وهذا الأهم، أن هناك بعض الكتابات والكتب الإنجليزية والأمريكية التي عملت على تأكيد هذا الوجود الإسلامي أو العربي قبل كولمبوس في الهنود الحمر والأمريكيتين، لكن يقابلها كتابات وكتب أخرى تصف ذلك بالتحيز الإسلامي المدفوع من جهة مسلمين أمريكيين يريدون إعطاء وجود إسلامي/عربي في أمريكا متخذين أسهل وسيلة لذلك وهي دمجه بالتواجد القديم للهنود الحمر (من 11 إلى 13 ألف عام قبل الميلاد حسب الدراسات)، وبذلك تتواجد الطعون في صحة الكثير من تلك المعلومات وأنها كانت لأغراض سياسية وعِرقية وليس من باب الأمانة التاريخية كما يظن البعض.
مثل كتاب عام 2013م :
The Muslim Discovery of America
للكاتب Frederick William Dame.
والذي يحمل تفنيدا للكثير من المعلومات جدير بالاطلاع عليه رغم تحامله.
ولذلك:
فنحن نقف بالحياد أمام مثل هذه المعلومات، مع الحاجة لبحث أكبر في مدى مصداقيتها وصحتها التاريخية، مع وجوب البعد عن التهويل غير المدروس وغير الدقيق للأسف والذي وصل مع البعض إلى وصف وجود (أمة إسلامية كاملة) في الأمريكيتين قبل كولومبوس.
هذا والله تعالى أعلى وأعلم
و لمن أراد المزيد فالمرجوا مطالعة كتاب: (بيان حقيقة كتاب العظماء المائة) لأخينا الأستاذ موسى إسماعيل الصفدي بارك الله فيه و نفع و الإطلاع على حلقة: الهنود الحمر وخرافة إسلامهم وبيان حقيقة اكتشاف أمريكا