هل تعرف الجدري Smallpox؟
أعراضه وكيف يظهر سريريًا؟ أو أحد أصيب به من قبل؟
ربما تفكر الآن أنك أصبت به في مرحلة من حياتك، وتقول في نفسك نعم!! أنا أعرف الجدري فقد أصبت به في مرحلة الطفولة، وشقيقي أصيب به وكثير من أصدقائي..
لحسن الحظ سأخبرك بأنك مخطئ، لأنك أصبت بجدري الماء أو ما يدعى بالحماق chickenpox وليس مرض الجدري، لكن لا تقلق فكثير من الناس يخلطون بين هذين المرضين.
والسؤال هنا: هل هما ذات المرض؟
الجواب هو لا، فهما يختلفان كثيرًا ويتشابهان سريريًا فقط (أي يظنهما الناظر ذات المرض)
فمرض الحماق (جدري الماء) الذي يصيب معظم الأشخاص هو مرض ناتج عن الإصابة الأولية بالفيروس النطاقي الحماقي. ويسبب – كما تعرفون – ظهور بثور حاكةٍ على الجذع بدايةً لتنتشر بعدها للأطراف وكل الجسم، يشفى داء الحماق عادة عفويًا ويمكن استخدام بعض المسكنات أو المراهم. ويعد متوسط الشدة، ولكن قد تنشأ مضاعفات خطيرة له، وقد يسبب بعد مدة من هجوع الفيروس عند المرضى ضعيفي المناعة والمسنين داء المنطقة (زنار النار، رابط مقالنا عن زنار النار في التعليقات الأولى).
بينما يعتبر مرض الجدري، الذي يسبب ظهور بثور أيضًا، واحدًا من أكثر الأمراض الفتاكة المعروفة للبشر. فهو مرض قاتل، لكن لا تخف؛ فقد تم استئصال مرض الجدري حيث أعلن القضاء عليه عام 1980 بعد حملة التلقيح العالمية التي قادتها منظمة الصحة العالمية.
والآن، وقد علمتَ ما هو مرض الجدري. فما هو مسببُ هذا المرض الخطير، وكيف ينتقل؟
يعتبر مرض الجدري مرضًا فيروسيًا، يسببه فيروس الجدري Variola Virus، وهو فيروس كبير من عائلة POXVIRIDAE، حمضه النووي هو DNA، يستطيع النجاة في البيئة الخارجية لمدة قصيرة ولكنه أكثر استقرارًا في البيئة المنخفضة الرطوبة والحرارة.
ينتقل الفيروس بفعالية عن طريق الاستنشاق، وبدرجة أقل كفاءة عن طريق الاتصال الوثيق مع بثور أشخاص مصابين. كما يمكن أن يؤدي التعرض للملابس أو البطانيات الملوثة إلى العدوى بالمرض.
كيف يقوم الفيروس بهجومه؟
يصيب الفيروس البالعات الكبيرة Macrophages (نوع من الخلايا المناعية وظيفتها الدفاع عن الجسم) خلال أول 72 ساعة من مرحلة الحضانة، ثم يهاجر ويتكاثر في العقد اللمفاوية القريبة لمنطقة العدوى؛ مؤديًا إلى تَفَيْرُسٍ في الدم لا عرضي (أي بدون أعراض سريرية) خلال اليوم الرابع. ثم يتكاثر الفيروس في الطحال، ونقي العظام (نخاع العظم) والعقد اللمفاوية، مؤديًا لحالة تفيرس دم ثانوية عرضية (أي بأعراض سريرية منها: الحمى، انسمام الدم..) بحلول اليوم الثامن.
أخيرًا يدخل الفيروس المجرى الدموي مجددًا عن طريق الخلايا البيضاء White Cells (وهي خلايا مناعية تساهم في الدفاع عن الجسم) مسببًا حمى وانسمام دم مجددًا، ثم ينتقل منها إلى الخلايا المجاورة في الأوعية الدموية الصغيرة للجلد وتحت مخاطية البلعوم الفموي، مؤديًا إلى طفح واندفاعات جلدية. وبعد حوالي 14 يومًا يصبح المريض مُعْديًا، ومنهم من يكون معديًا عند بداية الحمى.
تُساعدُ منظمة الصحة العالمية WHO البلدان في تشخيص حالات الجدري المشتبه فيها من خلال توجيهها إلى المختبر الأنسب والملائم لتحليل العينات، باستخدام شبكة المراكز المتعاونة مع منظمة الصحة العالمية، فضلًا عن المختبرات الأخرى التي تشكل جزءًا من شبكة مختبرات الأمراض المنبثقة والخطرة (EDPLN).
ظهرتْ آخر إصابةٍ مسجلة للجدري في الصومال سنة 1977، وكما ذكرنا سابقًا؛ في عام 1980 أعلنت منظمة الصحة العالمية القضاء على المرض وقد ساعد باستئصاله عدة أشياء منها:
1). يصيبُ هذا الفيروس البشر فقط (فلا يوجد له خازن أو ناقل حيواني).
2). له نمط مستضدي واحد (يتمتع بالاستقرار المستضدي).
3). تحضير لقاح حي مضعف فعال، وإعطائه بشكل مجاني بإشراف منظمة الصحة العالمية.
4). لا يوجد حامل لهذا الفيروس (أي لا يوجد حالات تحت سريرية).
5). الأثر العاطفي الذي تركه هذا المرض الفتاك القاتل والذي ساعد على تحفيز الدعم العام والتعاون في جهود الاستئصال.
جَرتْ مناقشةٌ طويلةٌ ومعقدة في الفترة التي تلت الاستئصال، ركزتْ على تدمير المخزونات المتبقية الأخيرة من فيروس الجدري الحي في عام 1996. وفي الدورة التاسعة والأربعين لمنظمة الصحة العالمية، قررت الدول الأعضاء تدمير هذا المخزون في يونيو 1999.
ولا يُسمحُ بالاحتفاظ بالجدري لأغراض البحث إلا في مختبرين مرجعيين تابعين لمنظمة الصحة العالمية. أحد هذه المراكز هو مركز السيطرة على الأمراض في (أطلنطا، جورجيا، الولايات المتحدة)، والآخر هو مركز أبحاث علم الفيروسات والتكنولوجيا الحيوية، المعروف أيضًا باسم معهد VECTOR (في كولتسوفو، روسيا).
وقد توقفت اللقاحات الروتينية ضد الجدري عام 1972. وفي عام 2002، ذكرت صحيفة واشنطن بوست أن وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) حددت مخزونات فيروس الجدري السرية المحتملة في 4 دول أخرى غير الولايات المتحدة وروسيا. ويعتبر فيروس الجدري سلاحًا بيولوجيًا مدمرًا لأنه شديد العدوى مع معدل وفيات مرتفع – أكثر من 30٪ بين الأشخاص غير المطعمين.
ويتطلب الاستعداد للتعامل مع أي حالة جدري اهتمامًا عالميًا ووطنيًا. وتشمل الخطوات الإضافية لتعزيز التأهب للدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية:
1). تعزيز القدرات المختبرية للتشخيص من أجل الكشف عن فيروس الجدري
2). توسيع نطاق الخبرة في مجال السلامة البيولوجية في المختبرات والسلامة البيولوجية
3). وتعزيز أنظمة السلامة الأحيائية على المستوى الوطني في جميع البلدان.
وفي النهاية، يعتبر مرض الجدري المرض الخمجي الوحيد الذي تم استئصاله بجهودٍ بشرية، نتيجةً لتضافر الجهود العالمية والدولية والمحلية، وهو حافز ودافع للإنسان للتعلم والبحث عن حلول المشكلات التي تواجهه وللعمل بتضامن وتعاون للوصل لعالم أفضل خالٍ من الأمراض والأزمات!
Lippincott’s Illustrated Reviews Microbiology Third Edition, p 270
Lippincott’s Illustrated Reviews Microbiology Third Edition, p 271