المقال الصوتي من تغريد مصطفى جمال من ” بلابل الباحثون المسلمون ”
لسماع التعليق الصوتي يرجى الضغط على الرابط أدناه
صورة رقم (1)، [1]
كم من أحد منكم تساءل يومًا كيف لنا أن نرى ونسمع ونتذوق ونشتم الروائح عن طريق حواسنا؟ فالغريب هو أننا نرى داخل أدمغتنا، فنحن نميّّز الألوان كلها داخل أدمغتنا، فالعين هي مجرد مستقبِل للأشعة الكهرومغناطيسيّة وهي الضوء.
تستقبل عيننا ثلاثة ألوان فقط وهي: الأزرق، الأحمر، والأخضر. أما باقي الألوان فيتم تحليلها داخل الدماغ، والصورة التي نشاهدها في كل لحظة حتى عند قرائتك هذا المقال يتم تحليلها داخل الدماغ.
كيف للصورة أن تتشكل داخل خلايا دماغنا؟ هذا الشيء مشابه لباقي الحواس، فأنفنا يستقبل جزيئات متطايرة من المواد التي بدورها ترسل سيالة عصبيّة للدماغ، فيحللها الدماغ وعندها نستطيع إدراك الرائحة، كما أننا نشتمّها داخل دماغنا! فوظائف الدماغ معقدة جدًا وغير مفهومة، فهو يساعدنا أيضًا بأن نتعلّّم وأن نتذكّر وندرك ونقيّّم الأمور في حياتنا!
العمليّة الأساسية التي يعمل عليها جهازنا العصبي هي السيالات الكيميائية عن طريق جهد الفعل الذي فيه يتم تدفق أيونات معيّنة من داخل وخارج الخلية، هذه النبضات الكهربائية والتشبيكات العصبية هي محور عمل الجهاز العصبيّ، فبه أيضًا تحفز تحريك عضلاتنا وغيرها.
ولكن كثير من الأمور ما زالت مبهمة ومعقدة في علم الدماغ تفصلنا عن فهم المادّة التي تجعلنا نفكّر في المادة نفسها!
إذا تساءلتم يومًا مََن مِِن الكائنات الحية التي لديها دماغ؟ فسيخطر ببالكم اولًا الإنسان ومن ثم باقي الحيوانات، وحتى الحشرات الصغيرة. ولكن ماذا عن النباتات؟ هل تمتلك دماغ أيضًا؟ إذن ما الذي يصنف كائن حي عن أخر بامتلاكه دماغ؟
النباتات: هي كائنات حيّة تتميز عن باقي الكائنات بعدم قدرتها على السير، فهي متصلة بجذورها داخل التربة ولكن النباتات تستطيع القيام بنوعين من الحركة: حركة انتحائية باتجاه العامل المحفز (Tropism movement) وحركة جيمناستيكية (حركة انتحائية ليست باتجاه العامل المحفز) (Nastic movement)).
أمثلة من الحركات الانتحائية التي ليست باتجاه العامل المحفز هي انتحاء النوم، والتي فيها تنطوي (تغلق) الأوراق عند الظلام وتفتح عند الضوء، كما أن الأوراق تستجيب بالانغلاق للعديد من المؤثرات الخارجية الأخرى، كاللمس والحرارة والنفخ والاهتزاز (صورة 2).
يطلق على الأنواع السابقة من المؤثرات بالحركة الحسيّة نتيجة الاهتزاز (Siesmonastic movement) وهي عبارة عن حركة سريعة لغلق الأوراق نتيجة للمس أو الاهتزاز. فعند لمس النبتة فإن أوراقها تغلق بسرعة وتفتح بعد مرور وقت قصير [2،3]
صورة رقم (2)
إذن فإن للنباتات حاسّة خاصّة تستشعر بها ضوء الشمس وغيرها. ولكن لا يوجد للنباتات دماغ، فلو راجعنا بنية النبتة فهي مبنية من ثلاثة أقسام أساسيّة وهي الجذور والساق والأوراق، هذه الأجزاء ممكن أن تتركب من أنسجة حشوية وهي عبارة عن خلايا بسيطة أو أنسجة وعائية خشبية، ولحائية والتي تتكون من خلايا وعائية أكثر تعقيدًا. [4]
إذن أين مركز دماغ النبتة التي عن طريقها يتم اتخاذ القرارات؟
قبل 200 عام، عمل عالم النباتات الفرنسي ريني ديسفونتينس (René Desfontaines) على مراقبة سلوك النبتة ميموسا بوديكا (Mimosa Pudica). يشتق الاسم العلمي من الكلمة اللاتينية بوديكا أي الخجولة/ المنكمشة أي النبتة الخجولة.
تتألف ورقة النبتة من عدة أوراق ريشية من الوُرَيقات، كل وريقة تتألف من أزواج متقابلة، يصل العدد في الوريقة الواحدة إلى 20 ل26 وريقة متقابلة.
تنطوي أوراق هذه النبتة كردّة فعل سريعة عند لمسها. من غير المعلوم حتى الآن لماذا يملك نبات ميموسا بوديكا هذه الخاصية تحديدًا؟ ولكن تميل آراء العلماء إلى أنها تستخدم كعملية دفاع ضد الحشرات المؤذية التي تتغذى على النباتات، فعند أغلاق الورقة بشكل مفاجئ فإنها تقوم بتخويف الحشرات القريبة منها، وأيضًا تساعد بإسقاط الحشرات التي توقفت عليها. فقد قام هذا العالم بمراقبة سلوك هذه النبتة عند عمليّة لمسها، ففي المراحل الأولى بعد اللمس تغلق النبتة اوراقها كردّة فعل سريعة ولكن بعد وقت قصير تفتح النبتة أوراقها من جديد. ولكن بعد تكرار هذه العمليّة عدة مرات، لم تعد حالة اللمس تؤثر على هذه النبتة فتتوقف عن إغلاق أوراقها! [3،4]
صورة رقم (3)
كيف لهذه العملية أن تتم؟
بعض العلماء يفترض وجود خلايا حساسة داخل أوراق النبتة تستشعر اضطرابات حركيّة (صورة رقم 3). عند الاضطراب الحركيّ فإن هذه الخلايا تنتج ما يسمى جهد الفعل (مشابه لذلك الموجود في الخلايا العصبيّة عند الحيوان) الذي بدوره يرسل هذه الاستشعارات إلى باقي أجزاء الورقة حتى وصوله إلى الغصن، مع العلم أن عملية نقل الاستشعار هذه ما زالت قيد البحث عند النباتات.
ولكن كيف تتحرك النبتة إذن؟ فليس لها عضلات! الجواب هو أن حركة النباتات هذه تتم عن طريق الخلايا التي تشكل الأنسجة الوعائية عند النبتة، هذه الخلايا تحتوي على نسبة كبيرة من الماء في داخلها تصل إلى ما يقارب الـ80% من حجم الخليّة. هذه الخلايا تتميز بوجود قنوات محددة تدعى (aquaporins) التي تساهم في اخراج الماء عن طريق جدار الخلية. فعند التحفيز تخرج كمية كبيرة من الماء من داخل هذه الخلايا التي بدورها تقلّص حجمها فلذلك يقل الضغط على جدران الخلايا الأخرى في النبات فتؤدي لتغير شكل النبتة (صورة رقم 4).
جهد العمل يعزز من ارتفاع تركيز أيونات الكالسيوم داخل الخليّة، أي يغير الشحنة داخل الخليّة الموجبة، هذا الجهد الكهربائي بدوره يساهم في فتح قنوات حساسة للجهد الكهربائي فيتم تدفق أيونات الكلور أيضا خارج الخليّة، بالتالي فإن قنوات الصوديوم تفتح فتتدفق أيونات الصوديوم خارج الخليّة، وعندها يتم تعديل شحنة غشاء الخلية. ولكن الآن وبسبب وجود تركيز أيونات مرتفع خارج الخليّة فإنه يشكل ضغط أسموزي على الخلية، عندها تفتح قنوات الماء، فيخرج الماء خارج الخلية فيتم تقلص حجم الخليّة وبالتالي يغيّر شكل الورقة. بعدها يعود الماء الى داخل الخلية عند تعديل الأيونات من جديد، هذه العمليّة تستغرق 10 دقائق عند هذه النبتة. [5]
صورة رقم (5)
والآن نعود لسؤالنا الأهم، لماذا لم تحفز النبتة من جديد بعد لمسها؟ هل تعلمت الدرس؟ لا يمكن للتعلّم أن يحصل دون ذاكرة. [5،7]
للإجابة عن هذا السؤال هل بالفعل يوجد للنبتة ذاكرة طويلة المدى؟ وهل بالفعل تستطيع النباتات التعلّم؟
أعاد العالِم ستيفنو مانكوسو (Stefano Mancuso) عالم نباتات ومؤسس العلوم العصبية عند النباتات في جامعة فلورنس الإيطالية) والباحثة مونيكا جاجليانو (Monica Gagliano) باحثة من جامعة استراليا الغربيّة) نفس التجربة ولكن في بحث شامل وبالتعامل مع النبتة وكأنها حيوان، تحت ظروف دقيقة كتأثير البيئة ذات الضوء العالي وبيئة ذات الضوء المنخفض على مدى قابلية تعلّم النبتة. [8]
أخذت الباحثة، مجموعة من هذه النبتة ووضعتهم في وعاء ومن ثم حمّلت الوعاء على جهاز يقوم بإسقاطه من ارتفاع محدد ودقيق. يتم إسقاط الوعاء من علو 15 سم، بحيث يتم تكرار هذه العملية 60 مرة تلو الأخرى وبفاصل خمسة ثوان. هذا الارتفاع آمن لحماية النبتة من الضرر ولكن هذه العملية تؤدي لاهتزاز النبتة بحيث تحفزها لأغلاق أوراقها. إذن ماذا سيحدث إذا أسقطنا 56 نبتة 60 مرة؟ هل ستدرك النبتة أن هذه العمليّة ليست بخطرة فتتوقف عن إغلاق اوراقها أم لا؟ (صورة رقم 6)
صورة رقم (6)
بعد أداء التجربة لاحظت الباحثة سريعًا ان بعض النباتات توقفت عن إغلاق اوراقها بعد عدة محاولات من التحفيزات وعند المرة الأخيرة من التكرار توقفت كل النباتات عن إغلاق اوراقها.
إذن هل ما شاهدته الباحثة هو بالفعل تعلّم وتذكر النباتات بأن عملية السقوط هذه غير خطرة؟ ولذلك توقفت عن إغلاق اوراقها وإسراف طاقة خلويّة لعملية غلق الأوراق؟ أم أن أوراق النباتات قد أُجهدت وتعبت من عملية الإغلاق فلذلك لم تعد تغلق اوراقها.
للإجابة عن هذا السؤال فقد أخذوا هذه النباتات “المتعبة” نفسها وحفزوها بطريقة أخرى عن طريق وضعها داخل هزّاز وليس عن طريق جهاز السقوط الحر. تفاجأ الباحثون عندما شاهدوا أوراق النباتات قد أُغلقت عند وجود المحفز الجديد وهذا يدل على أن النباتات لم تكن متعبة بالفعل وإنما تعلّمت درس السقوط وتذكرته وأصبحت غير مبالية لهذا المحفز لعدم تشكيل الخطر عليها.
للتأكيد على هذه الفرضيّة، أخذت هذه النباتات نفسها بعد أسبوع من تجربتها بالهزاز وتم إسقاطها من جديد عن طريق جهاز السقوط الحر نفسه. وبالفعل هنا أيضًا لم تكترث النبتة لهذا المحفز وتذكرته حتى بعد أسبوع. كررت التجربة على نفس النباتات لمدة شهر وحتى بعد هذه المدة تذكرت النباتات عملية السقوط ولم تغلق اوراقها.
في هذه التجربة استطاع الباحثونأن يظهروا كيف أن النبتة توقفت عن إغلاق أوراقها عندما تعلمت أن التأثير الخارجي غير مضر وكيف أن النباتات لها القدرة على التعلّم بسرعة، وكما لدى الحيوانات فإن عمليّة التعلم كانت أسرع في التواجد في الظروف غير المفضلّة.
والنتيجة الأكثر دهشة هي أن النباتات استطاعت أن تتذكر هذا التأثير لعدة أسابيع حتى عند تغير البيئة التي فيها تعلمت هذا التأثير. وأيضًأ أن للنباتات قابليّة تذكر طويلة المدى، فقد أظهر الباحثون عبر نتائجهم أنها استطاعت تذكر الحافز حتى لمدة شهر كامل. [8]
تجارب أخرى أظهرت أنه يمكن تخدير هذه النباتات باستخدام مواد كيميائية متطايرة كالإيثر ، الكلوروفورم، كبريتيد الهيدروجين، الأمونيا وغيرها. فعند التخدير لا تتأثر النباتات بالحوافز الخارجيّة ولا تغلق الأوراق عند اللمس، بشكل متشابهة لعملية التخدير للأجهزة العصبيّة عند الأنسان. [9]
لذلك فصحيح أن النباتات تفقد عضو كالدماغ وأنسجة عصبيّة، ولكن هي نعم تمتلك تأشيرات معقدة بين الخلايا مبنية على تدفق أيونات الكالسيوم التي تتشابه مع نظام عمل الخلايا العصبيّة عند الأنسان.
بالتالي صرّّح الباحثون بأنهم لا يفهمون كليًا الأسس البيولوجية لعملية التعلم عند النباتات، مع ذلك تعطي هذه التجارب قفزة نوعية في كيفية تفكيرنا عن النباتات والفصل بين عالم النبات والحيوان. بالتالي من الممكن أن هذه المنظومة تساعد في تبسيط فهمنا للذاكرة وجهاز الاعصاب عند الحيوانات والبشر، وتبشرنا بأن الذاكرة لا تتم فقط عن طريق جهاز أعصاب ودماغ كطريقة واحدة ووحيدة وإنما هنالك طرق معقدة أخرى تتشابه عند النبتة. [7،8]
[4] F. B Lopez and G. F. Barclay. Plant Anatomy and Physiology. 2017
[8] Monica Gagliano et al. Experience teaches plants to learn faster and forget slower in environments where it matters. Oecologia. 2014.
[9] Roblin، G. “Mimosa pudica: a model for the study of the excitability in plants”. Biological Reviews. 1979.